كعادته السنوية، استضاف بنك الاحتياط الفيدرالي (المصرف المركزي الأميركي)، في "كانساس سيتي"، قبل ايام، ندوة السياسة الاقتصادية، التي شارك فيها مجموعة من محافظي البنوك المركزية ووزراء المالية ورؤساء الشركات والأكاديميين ورجال الإعلام، والتي تم عقدها هذا العام من خلال تقنية "فيديو كونفرانس"، بعد تزايد حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19 ومتحوراته من جديد حول العالم، ومن المتوقع أن تسيطر على المناقشات الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء، خصوصاً في عالم ما بعد الجائحة.
وأعلن منظمو الندوة أن موضوع النقاش الرئيسي هذا العام كان "السياسة الاقتصادية في ظل اقتصاد غير متكافئ"، إلا أن التوقعات أشارت إلى أن مستثمري "وول ستريت" لم يكونوا بعيدين عما آلت إليه مناقشات الندوة، حيث مَثَّل اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء تاريخياً أحد أهم عوامل انخفاض عوائد السندات، الأمر الذي ستنعكس نتائجه بالضرورة على موعد بدء البنك الفيدرالي في تقليص برنامج شراء السندات الذي بدأه قبيل نهاية الربع الأول من العام الماضي، لضمان توفير السيولة في الأسواق وقت احتدام أزمة انتشار الفيروس في الأراضي الأميركية.
أظهر مؤشر "جيني"، وهو مقياس لعدم المساواة في الدخل، أن فجوة الثروة بين الأغنياء والفقراء في الولايات المتحدة تقترب الآن من أعلى مستوياتها منذ أواخر الستينيات
جاءت ندوة هذا العام أيضاً في وقت يشهد اهتماما متزايدا من صانعي السياسات النقدية والمالية في الولايات المتحدة بما تسببت فيه سنوات طويلة من السياسة النقدية الميسرة بمعدلات فائدة منخفضة، والضامنة لتوفير كميات كبيرة من السيولة منخفضة التكلفة، في تضخيم أسعار الأصول ووصولها إلى مستويات قياسية، مع توسيع الانقسامات المجتمعية.
وقبل أيام، أظهر مؤشر "جيني"، وهو مقياس لعدم المساواة في الدخل، أن فجوة الثروة بين الأغنياء والفقراء في الولايات المتحدة تقترب الآن من أعلى مستوياتها منذ أواخر الستينيات، وهي الفترة التي بدأ فيها الاحتفاظ بالسجلات.
وخلال فترة العام ونصف التي تلت ظهور الوباء وانتشاره في الأراضي الأميركية، ارتفعت ثروات الأسر بنحو 19 تريليون دولار، لتصبح 137 تريليون دولار، إلا أن أغلبها تركز في أيدي الفئة الأكثر ثراء، بواقع 90% من الزيادة التي حدثت خلال الفترة الماضية.
وبينما كان متوسط معدل نمو الثروات خلال الفترة في حدود 13.8%، تمتعت فئة 1% الأكثر ثراء بمعدل نمو لثرواتها بلغ 23%، بينما لم تشهد ثروات الواحد بالمائة الأقل دخلاً سوى ارتفاع بنسبة 2.5%.
وشهدت مدخرات الأميركيين تكراراً للنموذج السابق، إذ استحوذت أعلى فئتي دخل بين الأميركيين على 80% من الزيادة في المدخرات التي شهدتها أميركا خلال فترة العام ونصف الماضية، والتي بلغت 2.6 تريليون دولار.
وأظهرت دراسة أعدها البنك الفيدرالي ارتفاع ثروة أغنى 1% من الأسر الأميركية خلال عام الجائحة بنحو 4 تريليونات دولار، تمثل ما يقرب من 35% من إجمالي الثروات التي خُلقت العام الماضي.
أظهر تقرير "جيني" الأخير ارتفاع الفجوة بين المقاطعات الأميركية الأقل والأعلى دخلاً من الأصول للفرد في 2019 إلى ستة أضعاف ما كانت عليه في عام 1990
وفي الوقت الذي مثلت فيه أهداف مثل "زيادة معدلات الضرائب" و"تحقيق العدالة الاجتماعية" و"كسر احتكار الأثرياء للثروات"، عناوين رئيسية في حملة الرئيس جو بايدن عام 2020، تتزايد الضغوط على رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي، جيروم بأول، لفرض سياسات تسمح بدور أكبر للبنك في توزيع الدخول بين الأميركيين.
وتقاوم الشركات الأميركية الكبرى، وجماعات الضغط المرتبطة بها، ضغوط تقليص التفاوت في الدخول والثروات، معتبرين هذا التفاوت ضرورياً لاستمرار ارتفاع أسعار الأسهم، والأصول الأميركية بصفة خاصة.
وفي لقاء له مع "بلومبيرغ"، أكد ستيفن ميجور، مسؤول أبحاث أدوات الدخل الثابت لدى بنك "إتش إس بي سي"، أنّ "السياسات الحكومية يمكنها من الناحية النظرية أن تعمل على إعادة توزيع الثروات من أصحاب رأس المال إلى العمال"، إلا أنه حذر من أن "ذلك قد يتسبب في هروب رؤوس الأموال باتجاه الأصول الأكثر أماناً، مثل السندات الأميركية".
وأظهر تقرير "جيني" الأخير ارتفاع الفجوة بين المقاطعات الأميركية الأقل والأعلى دخلاً من الأصول للفرد في 2019 إلى ستة أضعاف ما كانت عليه في عام 1990، فقد ارتفع الدخل بشكل كبير في المناطق التي تتركز فيها أنشطة التمويل والتكنولوجيا والتعدين والترفيه، مقارنة بقطاعات الاقتصاد الأخرى.
ويعد الدخل من الأصول أحد أهم مقاييس الثروة في الولايات المتحدة، كونه يستثني الأجور والإعانات الحكومية، ويمثل نحو خمس الدخل الفردي على مستوى الولايات الأميركية.
لا يتوقع كثيرون تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء قريباً، خصوصاً في ظل التعديلات الضريبية التي أدخلها ترامب، والتي صبت في مصلحة الأثرياء والشركات الكبرى
ولا يتوقع كثيرون تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء قريباً، خصوصاً في ظل التعديلات الضريبية التي أدخلها الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي صبت في مصلحة الأثرياء والشركات الكبرى، وتسببت في تراجع الإيرادات الضريبية للخزانة الأميركية.
والأربعاء الماضي، أظهر تقرير صادر عن مركز السياسة الضريبية، أحد أهم مراكز الأبحاث الأميركية غير الحزبية، أن نحو 107 ملايين أسرة أميركية، تمثل ما يقرب من 61% من إجمالي دافعي الضرائب الأميركيين، لم يدفعوا ضرائب على دخولهم العام الماضي للحكومة الفيدرالية، نتيجة لما سببه ارتفاع معدل البطالة بين الأميركيين، بسبب الأزمة الطارئة التي تسببت في تراجع العرض والطلب، كما أدى إغلاق الشركات الذي استهدف الحدّ من انتشار الفيروس، إلى تراجع دخول نسبة كبيرة من المواطنين والمقيمين.