أججت المسودة الأخيرة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل السجالات السياسية الداخلية لدى الطرفين، بعدما صادقت الحكومة الإسرائيلية على مبادئه الأساسية، ورحب بمندرجاتها المسؤولون اللبنانيون. وفي الوقت الراهن، ما زال الاتفاق ينتظر الإقرار النهائي من قبل الطرفين، بعدما جرى إيداع مسودته النهائية الكنيست الإسرائيلي ومجلس النواب اللبناني.
هذا الاتفاق، إذا ما تم إنجازه، يُفترض أن يمهد لبدء لبنان بالتنقيب عن الغاز في حقل قانا البحري الحدودي، مقابل مباشرة إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش البحري الذي يحاذي المنطقة المتنازع عليها.
أما الأهم، فهو أن هذا الاتفاق سيسمح ببدء كل هذه الأنشطة الاستثمارية، بأقل قدر ممكن من المخاطر الأمنية والعسكرية، وهو ما تحرص عليه بشدة الشركات البترولية الأجنبية المنخرطة في اتفاقيات تجارية مع الطرفين.
أدركت إسرائيل جيداً أن الدخول في مرحلة الاستخراج من كاريش، قبل حسم مسألة ترسيم الحدود البحرية المحاذية له، سيعني الدخول في نزاعات أمنية
من حيث الشكل، يبدو أن الطرفين يملكان المصلحة في تمرير الاتفاق بالسرعة القصوى. فإسرائيل التي تجاوزت مرحلة التنقيب والاستكشاف بالنسبة إلى حقل كاريش، لا تملك أي مصلحة عملية بتهديد منشآت الاستخراج العائمة والمكلفة في نزاع عسكري غير محسوب العواقب، بعدما وصلت هذه المنشآت بالفعل إلى الحقل منذ أربعة أشهر. كما لا تملك في الوقت نفسه المصلحة في زيادة الكُلَف الاستثمارية، عبر الاستمرار بتأجيل بدء الاستخراج، وتجميد عمل المنشآت الجاهزة، كما يجري اليوم بانتظار إنجاز ترسيم الحدود.
مع الإشارة إلى أن إسرائيل تدرك جيدا أن الدخول في مرحلة الاستخراج من حقل كاريش، قبل حسم مسألة رسم الحدود البحرية المحاذية له، سيعني الدخول في نزاعات أمنية لا تُحمد عقباها. وهذا تحديدا ما دفعها إلى تأجيل بدء عمليات الاستخراج مرات عديدة، رغم جهوزية المنشآت، بانتظار إنجاز الاتفاق الحدودي.
أما لبنان المنهك بتبعات الأزمة المالية، والمتأخر عن ركب التنقيب والاستثمار في حقول الغاز البحرية مقارنة بإسرائيل وقبرص ومصر ومعظم دول شرق المتوسط، فيبدو متعطشا لاستثمار هذه الثروة الطبيعية، التي يمكن أن ترفد البلاد بالسيولة بالعملات الأجنبية، بما يسمح بزيادة قدرة الدولة على الإنفاق وامتصاص جزء من الضغط على سعر صرف العملة المحلية. فكما هو معروف، ونتيجة الأزمة الراهنة وتراجع إيرادات الدولة، تراجعت نفقات الموازنة العامة من أكثر من 17.1 مليار دولار قبل الانهيار إلى نحو 1.2 مليار دولار اليوم، ما يدفع لبنان إلى البحث عن أي مورد مالي يسمح بتعويم خزينة الدولة.
إلا أن أهم العوامل الدافعة باتجاه إنجاز ترسيم الحدود البحري، وبأسرع وقت، بات يرتبط اليوم بضغط القوى الدولية الغربية، وتحديدا الولايات المتحدة والدول الأوروبية. فحقل كاريش بالتحديد، وبعد أن يدخل مرحلة الاستخراج، يُفترض أن يكون أحد حقول الغاز الإسرائيلية التي ستضخ الغاز باتجاه محطتي تسييل الغاز في إدكو ودمياط في مصر، بهدف تسييل الغاز وتصديره عبر البواخر إلى أوروبا. وهذه العملية بالذات كانت موضوع مذكرة التفاهم الثلاثية، التي جرى توقيعها بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في منتصف يوليو/تموز الماضي.
باختصار، حل الأزمة الحدودية البحرية بين لبنان وإسرائيل، لم يعد يرتبط بحسابات البلدين المحلية، بل بحسابات حرب الطاقة المستعرة على هامش الحرب الأوكرانية، وسعي الغرب لإيجاد بدائل مستدامة عن الغاز الروسي للسوق الأوروبية، ومنها غاز شرق المتوسط. ومن المعلوم أن آثار أي توتر أمني، على خلفية النزاع الحدودي البحري، كانت ستتجاوز حدود حقل كاريش، لتمس بعمل جميع حقول الغاز الإسرائيلية، كما هدد حزب الله على لسان أمينه العام، وهو ما كان من شأنه أن يطاول جميع الرهانات الأوروبية على الغاز الإسرائيلي في سياق حرب الطاقة.
هذه المسألة تحديدا هي ما تفسر الجهد الذي وضعته الولايات المتحدة لإنجاز الاتفاق، والضغط الذي مارسته على جميع الجهات لتسريع وتيرة المحادثات. كما يفسر هذا العامل الضغط الفرنسي على الجانب اللبناني، لإبداء الليونة في ما يخص المفاوضات. وكان من الطبيعي أن تتمكن فرنسا من فرض ذلك، بالنظر إلى الدور الفاعل الذي تلعبه في الحياة السياسية اللبنانية أخيرا.
بالنسبة إلى الدور الفرنسي الساعي لحل الأزمة، كان من الواضح أن شركة توتال بالتحديد ساهمت في الدفع باتجاه إنجاز الاتفاق بين الجانبين الإسرائيلي واللبناني. فـ"توتال" تمتلك بالشراكة مع شركة إيني الإيطالية رخصة التنقيب عن البلوك رقم تسعة اللبناني، الذي يشمل حقل قانا اللبناني. وهذا ما سمح للشركة الفرنسية بالدخول على خط التسوية مع الجانب الإسرائيلي، من خلال عرض استعدادها لتعويض الإسرائيليين، مقابل تنازلهم عن حقل قانا كاملا للجانب اللبناني. وكان هذا الدور الفاعل الذي لعبته "توتال"، بعد تباطئها لفترة طويلة في أعمال الاستكشاف في لبنان، مجرد دلالة أخرى على حجم الاهتمام الفرنسي الاستثنائي بإنجاز الاتفاق بين لبنان وإسرائيل، نظرا لتداعياته على ملف أمن الطاقة الأوروبي.
كل ما سبق من حسابات محلية وإقليمية ودولية معقدة، ساهم في دفع الجانبين الإسرائيلي واللبناني لتسريع المحادثات غير المباشرة، وصولا إلى طرح المبعوث الأميركي آخر مسودات الاتفاق. ومع ذلك، ساهمت بعض العراقيل والحسابات المحلية لدى الجانبين في تأخير بلورة الاتفاق النهائي، وهو ما ظهر في مرحلة سابقة من خلال الملاحظات اللبنانية على مسودة الاتفاق، والامتناع الإسرائيلي عن قبول هذه الملاحظات، قبل حسم الصيغة النهائية للاتفاق أخيرا.
كان من الواضح أن شركة "توتال" تحديداً ساهمت في الدفع باتجاه إنجاز الاتفاق بين الجانبين الإسرائيلي واللبناني
فمن ناحية حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية، واجه رئيسها يئير لبيد مزايدات زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، الذي يرفض العرض الأميركي بشكل جذري، ويعتبره تفريطا بحقوق الجانب الإسرائيلي. ولهذا السبب، وبعد تقبل الحكومة الإسرائيلية المسودة الأميركية المطروحة، امتنعت الحكومة لاحقا عن إبداء أي ليونة في التعامل مع الملاحظات اللبنانية على المسودة، والتي طلبت بعض الإيضاحات التقنية. ولعل السبب الأساسي لهذا التعنت يكمن في اتجاه الأحزاب الإسرائيلية لخوض الانتخابات المقررة في بداية الشهر المقبل، ما دفع يئير لبيد لإبداء التصلب في وجه المطالب اللبنانية، ليحول دون أي تنازل يمكن أن يستخدمه خصمه الانتخابي نتنياهو في دعايته الانتخابية.
على الجانب اللبناني، لم تكن تبدو الأمور أقل تعقيدا. فبحسب المعارضة، كان المسؤولون اللبنانيون قد قدموا تنازلات قاسية خلال المفاوضات، باعتمادهم الخط رقم 23 أساسا للترسيم، بدل الخط 29 الذي يملك أساسا صلبا في القانون الدولي. وبذلك، نتج عن التنازل اللبناني اقتطاع ما يقارب 1430 كيلومترا مربعا من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية لمصلحة إسرائيل، بما فيها بعض أجزاء حقل كاريش الحدودي الذي بات بكامله على الجانب الإسرائيلي من الحدود.
ولذلك، لم يكن بإمكان الجانب اللبناني المضي أبعد من ذلك في التنازلات، ما حتم عليه وضع الملاحظات التي ارتبط معظمها بإيضاحات تخص وضعية حقل قانا ونقطة انطلاق الحدود البحرية من البر، بالإضافة إلى طلب ضمانات أميركية تحول دون تهديد الشركات العاملة في الجانب اللبناني بأي عقوبات دولية، في حال حدوث أي نزاع مع إسرائيل في المستقبل.
وبينما رفضت إسرائيل التفاوض حول هذه النقاط في البداية، عادت الأمور لتسلك مسار الحلحلة، بعدما تقدم الوسيط الأميركي بمخارج لاءمت المسؤولين لدى الطرفين. وبذلك، وصل التفاهم إلى مرحلة القبول الأولي من قبل الحكومة الإسرائيلية والمسؤولين اللبنانيين، بانتظار الموافقة النهائية التي ستُدخل الاتفاق حيز التنفيذ. وإذا فعلت الضغوط الأميركية والفرنسية فعلها على الجانبين، فسيكون بالإمكان بلوغ هذه المرحلة قبل الانتخابات النيابية الإسرائيلية، وسينتقل الجانبان إلى مرحلة العمل على تنفيذ الاتفاق، وهي مرحلة لن تقل تعقيدا عن مرحلة التفاوض.