نبهّت جمعيات مدنية تونسية متخصصة في مكافحة الفساد من إمكانيات تعاظم نفوذ المسؤولين واستغلال مناصبهم من أجل تحقيق منافع لحسابهم الخاص، في ظل تعطيل آلية المراقبة الدورية لمكاسب نحو 300 ألف مسؤول معنيين بالتصريح عن مكاسبهم بمقتضى قانون صادر عام 2018.
ويجبر القانون المتعلّق بالتصريح عن المكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح قائمة تضم ما يزيد عن 300 ألف ممن يتحملون مسؤوليات إدارية وسياسية بالتصريح الدوري عن ممتلكاتهم مرة كل ثلاث سنوات لدى هيئة مكافحة الفساد.
غير أن إغلاق هيئة مكافحة الفساد منذ أغسطس/ آب 2021 عطّل آليات التصريح وسط مخاوف من تأثير ذلك على جهود ملاحقة الفاسدين التي بدأتها تونس عقب ثورة جانفي/ يناير 2011.
ويعتبر المدير التنفيذي لمنظمة "أنا يقظ" مهاب بن قروي أن تعطيل آلية التصريح عن المكتسبات يضعف وسائل الرقابة ومكافحة الفساد.
ويقول بن قروي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن مؤشرات الفساد في تونس ستتصاعد مجددا بعد أن قطعت الدولة أشواطا في إرساء آليات للحد من استعمال النفوذ الإداري والسياسي لتحقيق منافع شخصية.
وأضاف: "مواصلة إغلاق مقار هيئة مكافحة الفساد فيه تشجيع للإثراء غير المشروع ومساس بحقوق الأفراد وتعطيل لمسارات التقاضي والتحقيق في قضايا الفساد المالي والإداري".
ويفرض قانون مكافحة الكسب غير المشروع على كل "شخص خاضع لواجب التصريح، تقديم تصريح جديد كل ثلاث سنوات في حالة تواصل مباشرته لوظائف موجبة للتصريح وكذلك عند انتهاء مهامه الموجبة للتصريح لأي سبب كان، في أجل لا يتجاوز 60 يوما من تاريخ انقضاء مدة الثلاث سنوات أو من تاريخ انتهاء المهام الموجبة للتصريح"، على أن يتم التصريح لدى مصالح هيئة مكافحة الفساد.
ويقضي القانون بأنه "يترتب عن عدم التصريح بالمكاسب والمصالح أو تجديده طبقا للشروط والآجال المضبوطة اقتطاع ثلثي المرتب أو المنحة بحسب الحال عن كل شهر تأخير".
وفي أغسطس 2021 أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد أمرا بإنهاء مهام الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي تختص في جمع الملفات واستقبال الشكاوى المتعلقة بشبهات الفساد وتقديمها إلى القضاء.
كما أخلت الشرطة مقر الهيئة التي تم انشاؤها عام 2011 وأخرجت جميع الموظفين العاملين في المبنى، دون تحديد أسباب هذا الإجراء.
ورغم قرار غلق الهيئة أعلن سعيد منذ مسكه صلاحيات السلطة المطلقة شن حرب شاملة على الفساد بمختلف تفرعاته، مؤكدا أن تطبيق القانون يجب أن يسري على الجميع، كما تعهّد باستعادة ما لا يقل عن 13 مليار دينار من الأموال المنهوبة (الدولار = نحو 3.1 دنانير).
وقال في كلمة بمناسبة توقيعه على الدستور الجديد في يوليو/ تموز الماضي إن "الشعب يريد تطهير البلاد، وعلى القضاء أن يكون في الموعد لمحاسبة كل من خرّب البلاد واستولى على حقوق الشعب ومقدراته".
ويراهن الرئيس التونسي على لجنة الصلح الجزائي التي بدأت أعمالها مؤخرا لتنفيذ وعوده باستعادة الأموال المنهوبة من مسؤولين ومقربين من نظام بن علي وذلك في غضون 6 أشهر وفق قانون اللجنة. ودعا أعضاء اللجنة إلى تولي أمانة استرجاع أموال الشعب والعمل بكلّ حرية واستقلالية.
وعام 2011 أحصت لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد نحو 460 ملفا لأشخاص حققوا منافع غير قانونية بسبب قربهم من نظام بن علي.
لكن تونس سجلت خلال سنة 2022 تراجعا في مؤشر مدركات الفساد بحسب منظمة الشفافية الدولية إلى المرتبة الـ85 عالميا وهو الترتيب الأسوأ للبلاد منذ عام 2012 وفق ما أعلنته أمس منظمة "أنا يقظ".
وتأخرت تونس في مؤشرات محاربة الفساد عالميا لتحتل المرتبة 85 عالميا من أصل 180 دولة وهي أدنى مرتبة تحتلها تونس منذ سنة 2012 كما حصلت على معدل 40 نقطة من أصل 100 نقطة وهو أدنى منذ 7 سنوات.
وكانت تونس عام 2021 تحتل المرتبة 70 على مستوى العالم، (بين 180 دولة)، وفي المرتبة السادسة عربيّا بمؤشر مدركات الفساد للعام الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، وذلك بـ44 نقطة.
وتعاني تونس من ارتفاع منسوب الفساد الذي يكلف اقتصادها أكثر من مليار دولار سنويا نتيجة تفشي شبكات التلاعب بالمال العام وتراجع سلطة المراقبة الحكومية، فيما تحيل هيئة مكافحة الفساد سنويا على أنظار القضاء المالي مئات الملفات والشكاوى التي يودعها مبلغون أو تكشفها المهمات الرقابية لمصالح الرقابة العامة.
ويرى الخبير في الحوكمة ومكافحة الفساد شرف الدين اليعقوبي، أن تأخّر ترتيب تونس في المؤشر العالمي لمدركات الفساد لسنة 2022 يعد الأكبر خلال السنوات الأخيرة.
وقال اليعقوبي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن تونس فقدت 15 مرتبة في تصنيف الدول لتعود البلاد إلى نفس المستوى الذي كانت عليه عام 2015، مؤكدا أن النتيجة المسجلة كانت متوقعة في ظل تراجع في جهود مكافحة الفساد وبروز عديد المؤشرات الدالة على ذلك ومن أهمها غلق هيئة مكافحة الفساد من ما يزيد عن السنة والنصف.
ويرى اليعقوبي أن إغلاق الهيئة عطّل جميع مهامها، ولا سيما الخاصة منها بتطبيق القوانين المتعلّقة بتصريح المسؤولين بمكاسبهم وممتلكاتهم التي يجري تحيينها (مراجعتها) كل ثلاث سنوات، لافتا إلى أن عملية التحيين تهم أكثر من 300 ألف شخصا معنيين بالتصريح عن مكاسبهم وفق القانون الصادر سنة 2018.
واعتبر الخبير في الحوكمة أن إغلاق هيئة مكافحة الفساد وفروعها الجهوية والمحلية عطّل تطبيق العديد من القوانين المهمة ولا سيما منها المتعلّقة بالتصريح المكاسب والممتلكات سواء للمسؤولين الجدد أو من تولوا سابقا التصريح ويتعيّن عليهم إجراء التحيين الدوري.
وأضاف أن غياب رؤية السلطة الحالية في مكافحة الفساد أدت كذلك إلى تراجع الترتيب التونسي في التصنيف الدولي لمدركات الفساد.
وتطالب منظمة "أنا يقظ " باتخاذ حزمة تدابير تساعد على تحسين الترتيب التونسي للعام الحالي وإعادة فتح مقار الهيئات الوطنية لمكافحة الفساد وتمكينها من الموارد البشرية والمادية اللازمة للقيام بدورها على أكمل وجه.
تعاني تونس من ارتفاع منسوب الفساد الذي يكلف اقتصادها أكثر من مليار دولار سنويا نتيجة تفشي شبكات التلاعب بالمال العام
كما تصر المنظمة على ضرورة توفير الحماية للمبلغين مع ضمان استقلاليتها الهيكلية والوظيفية وقبول التصاريح بالمكاسب والمصالح وتجديدها لكبار موظفي الدولة وكل المشمولين بواجب التصريح مع أعمال الأثر الرجعي لكل من تخلف على القيام بالتصريح أو بتجديده.
ويعد التبليغ عن الفساد والرشوة واحدا من الآليات القانونية التي اعتمدتها سلطات تونس في مسار مكافحة الفساد على امتداد السنوات التي تلت الثورة، حيث تلقت هيئة مكافحة الفساد عشرات الآلاف من الملفات من أفراد ومن أجهزة الدولة.
لكن المبلغين عن الفساد في تونس يقولون إنهم غير محميين بالشكل الكافي وهم معرضون إلى التنكيل والعقاب من في وظائفهم مطالبين الدولة بالحماية الكافية لهم.
كما طالب المبلغون عن الفساد، في بيان توجهوا به إلى الرأي العام في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بإعادة فتح الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، مع تغيير جملة من قوانينها وخاصة القوانين التي تُعنى بحماية المبلغين وتوفير الموارد البشرية وخاصة في جانب الاستقصاء، داعين إلى "استعجال النظر في كل ملفات شبهات الفساد المبلغ عنها لتحميل المسؤوليات ومحاسبة الفاسدين درءا لسياسة الإفلات من العقاب".
وأكد المبلغون عن الفساد "تواصل التنكيل بهم بأشكال، مختلفة كالطرد ومحاولات القتل والإحالة على مجالس التأديب والعبث والتلاعب بالإجراءات والزمن القضائي وتلفيق قضايا كيدية واهية لدى المحاكم"، وفق البيان.
ونددوا بما وصفوه "الصمت المطبق" من قبل رئيس الجمهورية ورئاسة الحكومة والوزراء والولاة رغم المراسلات العديدة التي وجهت لهم للبت في وضعياتهم، داعين إلى التعامل الجدي مع ملفات الفساد الذي تغلغل في جميع مفاصل الدولة.