من أكثر العائلات إثارة للجدل في ألمانيا والعالم هي عائلة كروب (Krupp) الشهيرة، والتي أنشأت صناعات الحديد والفولاذ، ومن ثمَّ الأسلحة في مدينة إيسين (Essen) الألمانية على حوض نهر الرّور (Rohr).
وقد دامت تلك الصناعة حوالي 450 سنة، منذ القرن السادس عشر (حوالي 1500 ميلادي)، وانتهت إلى شركة مفتتة تصنع أدوات كهربائية للمطابخ والزينة.
ولكنها قبل أن تنتهي كانت قد صنعت الأسلحة التي استخدمها الجيش الألماني في ثلاث حروب، وهي حروب الجنرال أوتو بسمارك (Bismarck) منذ عام 1859 وحتى احتلاله باريس عام 1870، ولنهاية حكم الإمبراطور نابليون الثالث، وتتويجه للقيصر الألماني ويلهلم الأول في قاعة المرايا بقصر فرسايل بالقرب من باريس.
وقد قامت الشركة أيضاً بتصنيع الأسلحة للجيش الألماني في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ويفيدنا المؤرخ الأميركي وليام مانشستر (Manchester) في الكتاب المفصل الصادر عام 1964 والموسوم "أسلحة كروب" أو (The Arms of Krupp) أن نفوذ الأسرة مكنها أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي سعيها لتحقيق الأرباح من الالتفاف على "لاءات" أدولف هتلر ومارست أمرين خدما في نهاية المطاف أعداء ألمانيا الهتلرية.
الأول هو قيام الأسرة ببيع بعض الأسلحة المتطورة مثل الطوربيدات البحرية والمدافع إلى جيوش الحلفاء عبر وسطاء أوروبيين. ومع معرفة هتلر بهذا الأمر، حسب ما يقول مانشستر، إلا أنه لم يستطع أن يعاقبها أو يتهمها بالخيانة لأنها كانت مصدره الأساس للتسلح.
والأمر الثاني هو أن هتلر سمح لأسرة كروب بعد غزوته الفاشلة لروسيا وخسارته الآلاف المؤلفة من العساكر بأن تجند من "معسكرات الاعتقال" شباباً يهوداً للعمل في مصانعها.
وقد ساهم هذا الأمر في بناء صناعة السلاح اليهودية في فلسطين، والتي اعتمدت إلى حد كبير على هؤلاء الذين عملوا في مصانع شركة كروب.
وقد حضرت هذه الحقائق إلى ذهني، وأنا أنظر إلى التحولات في المصالح وتغير نموذج العلاقات بين الدول على أساس المصالح.
ويبدو من الظاهر على سبيل المثال أن الولايات المتحدة وروسيا متفقتان إلى حد قد يكون أوسع مما يبدو على السطح في غرب أفريقيا، ولكنهما متناقضتان في مواقفهما حول الحرب الجارية في أوكرانيا، وكذلك، فإن الولايات المتحدة لا تبدي معارضة جدية في تعامل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) مع روسيا، ولكنها تفرض على روسيا عقوبات لمنعها من تصدير سلعها من النفط السائل والغاز إلا ضمن سقوف سعرية.
وقد استمعنا لتصريحات المسؤولين الأميركيين في وزارتي الخارجية والدفاع ممن يشككون في صحة الرواية التي تدعي تورط روسيا في انقلاب النيجر، ولكنهم في نفس الوقت يحذرون قادة الانقلاب بضرورة العودة للشرعية. ولكن الموقف الأميركي يلتقي مع الموقف الروسي ويتناقض مع الموقف الفرنسي الداعي إلى استخدام السلاح ضد الانقلابيين.
ورئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، تشن هجوماً كاسحاً على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حين انتقد إيطاليا واتهمها باللاإنسانية حين منعت اللاجئين عبر البحر المتوسط من دخول إيطاليا، وحمّلت ميلوني فرنسا مسؤولية نهب موارد النيجر وغيرها من الدول الأفريقية، والتي أفقرت شعوبها وأجبرتها على البحث عن حياة كريمة في أوروبا، في الوقت الذي نسيت فيه ما عملته إيطاليا مثلاً في مستعمراتها الأفريقية خاصة إثيوبيا وليبيا.
ولكن إيطاليا السياسية تتفق مع فرنسا على أمور كثيرة داخل الاتحاد الأوروبي، وتقف معها ضد روسيا في حرب أوكرانيا، وضد الصين في التجارة الخارجية والتكنولوجيا.
وقد أصدر الرئيس الأميركي، جو بايدن، مرسوماً تنفيذياً يمنع فيه الشركات التكنولوجية الكبرى في الولايات المتحدة من أن تتعاون مع شركات صينية في مجالات معينة، وسمح بالتعاون في مجالات ضمن شروط منها الموافقة المسبقة على ذلك التعاون من قبل الجهات الرسمية المختصة في الولايات المتحدة.
هذا يحصل بعد زيارة ثلاثة من المسؤولين الأميركيين إلى الصين وهم أنتوني بلينكن وزير الخارجية، ومن بعده جانيت يلين وزيرة الخزانة، ومن بعدهما جون كيري والذي يعمل الآن بصفته المبعوث الخاص للرئيس في شؤون المناخ.
وعلى المستوى غير الرسمي فقد استقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بصفته المبادر قبل حوالي نصف قرن بانفتاح الولايات المتحدة على جمهورية الصين الشعبية.
ونستطيع أن نرسم مصفوفات مشابهة في العلاقات الجديدة في المنطقة التي ننتمي إليها. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتبع هذه السياسة، ويبقي الأبواب مفتوحة على تغيير المواقف من الإيجابي إلى السلبي وبالعكس حسب ما تقتضيه ظروفه الاقتصادية والسياسية. وما يمكنه من ذلك هو أن الآراء متفقة على أنه يفعل ذلك لصالح بلده، ثم حزبه، ثم أخيراً وقليلاً لنفسه.
وإيران صارت تتبع سياسات مشابهة. فهي تفاوض الولايات المتحدة سراً، في الوقت الذي تزيد فيه الإدارة الأميركية ضغوطها على إيران وحلفائها في المنطقة. وكذلك، فإن إيران قد أعادت العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية ولكنها تطالب بحصتها في حقل جزيرة الدُرّة الغازي (أو أراش حسب تسمية إيران)؛ وتصل لهجتها في المطالبة حد إعلان الحرب.
والسياسة السعودية الخارجية صارت أوضح بكثير في هذا الاتجاه متعدد الجوانب والمعقد، وهي تسعى بكل جهدها لكي تبقي مصالحها مع الولايات المتحدة دون أن يكون ذلك على حساب علاقاتها مع الصين أو روسيا. وهي تستمع لمطالب الإدارة الأميركية بالتطبيع مع إسرائيل، ولكنها تريد أن يأتي ذلك في سياق لا يهدد نفوذها أو هيبتها في الوطن العربي. ومصر الآن تغازل تركيا وإيران وإن كانت عينها ما تزال ترمق رد الفعل الخليجي على ذلك.
هذا التحول في تشابك العلاقات الدولية وتعقدها ومرونتها في نفس الوقت قد أملته ظروف واضحة من أهمها أن القطبية الأحادية في العالم قد انتهت. وفي ظل هذا الوضع لا تستطيع الدول وبخاصة المتوسطة والصغيرة أن تبقى ملتزمة بخيار الصفر، أي أن تختار التعامل مع قوة عظمى على حساب مصالحها مع قوة عظمى على الجانب الآخر.
والسبب الثاني هو زيادة الاعتمادية المتبادلة في العالم. فالدولار ليس العملة المفضلة لدى بعض الدول وتمقت تفرد أميركا بالسياسات النقدية بسبب ما يتمتع به الدولار من مقبولية (acceptability) عالمية. ولكنهم يعلمون أن انهيار الدولار سيكلفهم مبالغ جسيمة.
وانهيار أسواق البورصات في أميركا سيحدث صدى كبيراً في أسواق بورصات العالم كلها بما فيها أسواق دول "بريكس" التي اجتمعت بجنوب أفريقيا لتبحث مستقبل الدولار واستبداله بقاعدة الذهب.
وإذا كانت الدول الكبرى تراعي في مصالحها التعددية والتخلي عن مبدأ "إما الكل وإما فلا"، فإن أسباب مراعاة ذلك عند الدول الأصغر هي أقوى. ولا تستطيع الدول الكبيرة أن تستخدم نفوذها دائماً لتلزم الدول الصغرى باختيار دولة كبرى على حساب أخرى بالمطلق. هذه النسبية الجديدة في العلاقات الدولية باتت تلزم دولا كالأردن والكويت والعراق وسورية أن تعيد النظر في مصفوفة علاقاتها الدولية والإقليمية.
وواضح أن العراق يسعى لذلك، وإن كان ما يزال يعاني من نكد الدول التي ما تزال تتمتع بنفوذ كبير داخله مثل إيران والولايات المتحدة.
وما يلزم دول المشرق العربي تحديداً على إعادة النظر هو الإرهاصات والتطورات السلبية الضاغطة على هذه الدول وصارت لا تأمن من تصطف معهم إن شعر هؤلاء أنهم قادرون على التصرف بمصالح دول المشرق.
وهناك مؤشرات على أن دول المشرق العربي (العراق والأردن وسورية وفلسطين ولبنان) قلقة مما قد يخطط لها باعتبارها رهينة ظروف سياسية واقتصادية وعسكرية صعبة، وبدرجات متفاوتة.
ولا بد لهذه الدول أن تأخذ مصالحها ببعض الجرأة المحسوبة، وأن تدعم التنسيق فيما بينها بذكاء سياسي يحيد الضغوط المتناقضة والمفروضة عليها.