- الوضع الاقتصادي المتأزم في تركيا، مع تضخم يصل إلى 67% وانخفاض قيمة الليرة، يثير تساؤلات حول فعالية استراتيجية رفع سعر الفائدة كحل للمشكلات الاقتصادية وتأثيرها على القطاعات القادرة على تحقيق أرباح تفوق تكلفة القروض.
- تواجه تركيا تحديات اقتصادية تتجاوز مشاكل الميزان التجاري والمديونية الخارجية، مما يستدعي البحث عن حلول واقعية تتجاوز الاعتماد على رفع سعر الفائدة، ويطرح تساؤلات حول مستقبل السياسة النقدية والتعامل مع التحديات الاقتصادية.
اقتصادياً، ما يجري بتركيا على صعيد سعر الفائدة عجيب وغير مسبوق، فأن ترفع لجنة السياسة النقدية بالمصرف المركزي أمس، سعر الفائدة 500 نقطة أساس دفعة واحدة، ليصل سعر الفائدة لخمسين بالمئة، بعد تثبيت الجلسة السابقة والترويج لانتهاء مرحلة التشدد النقدي، فهذا ما فاجأ الأسواق وخرج عن التوقعات... وينذر بتشوّهات لا محالة.
طبعاً إن لم نذكّر أن أنقرة والرئيس رجب طيب أردوغان تحديداً كان ضد الفائدة المرتفعة وسبق أن أقال ثلاثة محافظين للمصرف المركزي لمجرد طرحهم حلول رفع سعر الفائدة لتحسين سعر الصرف وامتصاص نسب البطالة والتضخم.
المفاجأة التركية بالأمس تدفع سؤالين ليتوثبا على شفتي أي متابع أو متخصص.
أولهما لماذا يصر الفريق الاقتصادي على هذه الأداة النقدية فيستمر برفع سعر الفائدة رغم عدم جدواها خلال عام كامل، إن بتحسين سعر الصرف أو امتصاص التضخم؟
فعندما شكّل الرئيس رجب طيب أردوغان الفريق الاقتصادي برئاسة وزير المال محمد شيمشك، في يونيو/حزيران من العام الماضي، كانت نسبة الفائدة 8.5% وكان سعر الدولار على عتبة 18 ليرة، فيما اليوم وبعد الرفع المستغرب والكبير، وصل سعر الدولار إلى نحو 32.6 ليرة وتخطت نسبة التضخم 67%.
والسؤال الأكثر حيرة وغرابة هو: ما هي القطاعات والأعمال التي يمكن أن تشغّل المصارف فيها الإيداعات والموجودات لتعود عليها سنوياً بأرباح تزيد عن 50%؟
والأهم ربما، بالسياق ذاته، من يمكن أن يقترض من المصارف ليدفع فائدة سنوية هائلة، وبماذا يمكن أن يستثمر القرض ليعود عليه بأموال تزيد عن سعر الفائدة وتحقق له الأرباح، طبعاً إن لم نشر إلى تراجع أداء قطاعي العقارات والسيارات اللذين كانا، خلال الأعوام السابقة، قواطر ومطارح لتحقيق الأرباح الكبيرة.
قصارى القول: لدى الفريق الاقتصادي التركي ولا شك أعذاره وربما الضرورة لهذا الإجراء المستغرب، والقصة على الأرجح أبعد من إرضاء وكالات التصنيف الائتماني وكسب ثقة المقرضين الدوليين وطمأنتهم.
وربما، بعد جلسة التثبيت الماضية، لو لم ترفع لجنة السياسات سعر الفائدة بواقع زحف التضخم وغلاء الأسعار، لتهاوت الليرة أكثر مما هي عليه. واضطرت تركيا لزيادة التدخل المباشر بالسوق عبر الاحتياطي بالمصرف المركزي، والذي بدأ يتناقص، ما يدلل على مسك سعر الصرف وضخ دولارات ليتوازن المعروض النقدي ولا تهوي الليرة، ريثما تنتهي الانتخابات البلدية التي ستشهدها تركيا في نهاية الشهر الجاري.
السؤال الأكثر حيرة وغرابة هو: ما هي القطاعات والأعمال التي يمكن أن تشغّل المصارف فيها الإيداعات والموجودات لتعود عليها سنوياً بأرباح تزيد عن 50%؟
ما يعني عودة تدخل المصرف المركزي بالسوق ووقوع الفريق الاقتصادي بما نهى عنه عندما أعلن خطته الاقتصادية، بدليل تراجع الاحتياطي والذهب بعدما أعلنت تركيا، خلال الشهرين الماضيين، وصول احتياطيها إلى أعلى مستوى بتاريخ الجمهورية.
الأمر الذي يحيلنا للسؤال عن السبب أو السر وراء تراجع سعر الليرة أمام الدولار، حتى خلال تراجع سعر العملة الأميركية عالمياً ورغم ما تقول البيانات التركية الرسمية عن زيادة الصادرات والسياحة وتهافت الاستثمارات.
والذي (السر) يجب ألا يخرج عن ثنائية الاستهداف الخارجي ومحاربة الليرة والاقتصاد التركي، أو تفشي الفساد وعدم ضبط الإنفاق أو ضخ الليرة.
أو، وهو وارد، أن الأرقام التي ينشرها معهد الإحصاء التركي حول الصادرات وعائدات السياحة وجذب الرساميل هي لأغراض دعائية ومبالغ فيها.
نهاية القول: تمر تركيا بأزمة اقتصادية تخطت عرج الميزان التجاري وزيادة المديونية الخارجية، فأن يزيد التضخم السنوي على سعر الفائدة، رغم رفعها الهائل، فهذا يستدعي البحث عن حلول واقعية وأبعد من التعويل على الاستثمارات بعد تحسن العلاقات والعودة مع دول الجوار إلى "صفر مشاكل".
الحلول السهلة ومقايضة جمود الاقتصاد بضبط الليرة عبر رفع سعر الفائدة المستمر ستؤثر على الإقراض
فترى، على سبيل المثال، لو عوّمت تركيا الليرة وابتعد المصرف المركزي كلياً عن التدخل بسوق الصرف، حتى خلال الأحداث السياسية الداخلية التي تستغلها المعارضة للإشارة إلى فشل الخطط وسوء الإدارة وتتسلح دائماً بسعر الليرة والتضخم والواقع المعيشي، فماذا يمكن أن يحدث؟!
الأرجح ستهوي الليرة التركية ولكن سيظهر سعرها الحقيقي، الأمر الذي يسهّل على أصحاب القرار ضبط الخلل وكشف السبب للانطلاق من أرضية صلبة لمعالجة التضخم عبر أدوات مالية ونقدية غير سعر الفائدة.
لأن الحلول السهلة ومقايضة جمود الاقتصاد بضبط الليرة عبر رفع سعر الفائدة المستمر، ستؤثر على الإقراض وبالتالي على الأعمال والانتاج وتنعكس على الصادرات التركية التي تعوّل عليها أنقرة بجميع أحلامها الاقتصادية.
هذا إن لم نبحث بخط الرجعة وكيف ستعاود تركيا تخفيض سعر الفائدة وما يمكن أن يتولد وقتذاك من عقابيل ومطبات، أو نتسرّع بالحكم على خطة الفريق الاقتصادي التركي بالفشل، بعد مرور عام، منطلقا من الشعارات التي رفعها: تحسين سعر الصرف، زيادة الاستثمارات، الرفاه الاجتماعي ومكافحة التضخم ليصل إلى 25% في نهاية العام الجاري وما دون 10% في نهاية عام 2025.