المتوقع اليوم، تحرك سريع، إعلامي على الأقل، من دول عربية قد تكون الإمارات في مقدمتها، لوصف ما جرى بين تركيا والسودان أمس، بالاحتلال والأطماع العثمانية في "خزان العرب الغذائي" ليعيد تاريخ نهاية 2017 نفسه، وقت زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخرطوم برفقة 200 رجل أعمال وأبرم 22 اتفاقية ومذكرة تفاهم.
لأن المصالح العربية، لا تصحو إلا حينما تمد تركيا يدها، حتى ولو كانت الصحوة من أجل التعطيل مقابل "رشى مؤقتة" كالذي حدث خلال محاولات التقارب التركي المصري أخيراً والمتوقع أن يحصل مع السعودية، رغم الذي قدمته أنقرة، هنا وهناك، ويمكن إدراجه في خانة التنازلات.
في حين، يلف الصمت دعاة تلك المصالح، حين يدخل "الأشقر الأوروبي" على الخط، ولو بأفعال تخريبية أو نيات مبيتة، بل ووصف التوريط الفرنسي خلال "مؤتمر باريس" أخيراً بـ" كرم حاتمي" وحرص أوروبي على رفع الخرطوم من حمأة الديون لتستعد بعد التخلص من الأعباء الإضافية، للانطلاقة صوب تل أبيب بحلة ليبرالية تتناسب وقيود صندوق النقد الدولي و"وصفات الديمقراطية".
قصارى القول: وفق ما رشح وأكده نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أن تركيا تحملت كامل تحديث الاتفاقات السابقة بمبلغ 10 مليارات دولار، وجميعها وفق الجانب السوداني، تصب في صالح الخرطوم بنسبة 75%.
وعلى الرغم من عدم تطرق الجانبين للاتفاقات وتفاصيلها، بيد أن لفتة إلى ديسمبر 2017، تعيدنا إلى "التعليم، والزراعة، والصناعة، والتجارة، وصناعة الحديد والصلب، والتنقيب، واستكشاف الطاقة، وتطوير استخراج الذهب، وإنشاء الصوامع، والخدمات الصحية، وتوليد الكهرباء"، والأهم بما اتفق عليه الأتراك خلال أول زيارة لرئيس تركي للسودان منذ إعلان الجمهورية التركية 1923، كان تأهيل جزيرة "سواكن" لتكون قبلة للسياحة وإنشاء قاعدة عسكرية تركية فيها.
وقلنا "سواكن" لأنها كانت الممسك المصري الإماراتي على السودان، خلال توقيع الاتفاقات السابقة، فمصر التي تعتبر الجزيرة ضمن حدودها قبل استقلال السودان عام 1956 ورأت أبوظبي في الوجود التركي الخطر الداهم على الأمن القومي العربي.
بل، لمن يتذكر، لم يتوان البلدان الشقيقان في نعت السودان بأقذع صفات الخيانة، للحد الذي دفع مدير عام قناة أبوظبي الرياضية سابقا، محمد نجيب، إلى القول "كلمة لكل قياداتنا، ومن وثق بالبشير.. لا تشتر العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاس مناكيد.. رحم الله أبا الطيب المتنبي".
نهاية القول أمران.
الأول أن إعادة إحياء الاتفاقات التركية السودانية، لن يمر باليسر والسهولة التي سوقتها أنقرة والخرطوم أمس، فإن مرّت من المطب الأوروبي، والفرنسي على وجه التحديد، رغم صعوبة المرور الذي قد يكلف السودان، ليس تعطيل القرض البالغ 1.5 مليار دولار، بل وربما إعادة النظر في شطب الديون الفرنسية البالغة 5 مليارات ولا يستبعد، مفاجأة أوروبية إسرائيلية، تضع شرط "إلا تركيا" ليتم إعفاء السودان من 80% من ديونه التي تزيد عن 60 مليار دولار.
قد لا تمر من البوابة العربية، إذ على الأرجح أن تضاف السودان إلى عصي السعودية ومصر، في عجلات التطبيع مع تركيا، وهما تعلمان أن رجوع أنقرة، بعد تكبد أعباء تعطيل الاتفاقات السابقة، أقرب للمحال.
وأما الأمر الثاني المتعلق بـ"العناد التركي" والتعويل على السودان، كبوابة للقارة السمراء، خاصة في واقع استمرار رفع الجدران الأوروبية أمام الصادرات التركية والتوقعات، بتعطيل المساعي نحو المنطقة العربية.
ما يزيد التوقع بوضع الخرطوم على قائمة "التحدي التركي" وإن عبر الخسائر، فنرى سريعاً، بعد المنح الفورية التي قدمتها أنقرة، عودة شركة "باشهان" التي بدأت عام 2017 بتأسيس المنشآت والمعامل، وإسراع وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" إلى جزيرة "سواكن".
ليس من شك، أنه من الخيانة تشجيع أي اتفاق وتوافق فيه ضياع للثروات أو السيادة العربية، لكن الخيانة الأشد، الوقوف بوجه أي تطلع عربي تركي يقام على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لتبقى السودان، مثالنا اليوم، من الفقر والتخلف ما يدفعها للتنقل بين الهيمنة الأوروبية والتطبيع الإسرائيلي.