في ظل التطورات المتسارعة في العدوان الإسرائيلي على غزة، والتحولات الجوهرية التي يتكلم عنها الخبراء والسياسيون من تغيير شكل المنطقة بعد العملية، تتجه الأنظار نحو التداعيات السياسية والعسكرية لعملية "طوفان الأقصى"، في حين يبقى البعد الاقتصادي عاملاً مهماً لا بد من لفت النظر إليه، وسورية تقف في مركز هذا التأثير الاقتصادي، فالعدوان على غزة ليس مجرد مسألة تحليلية وحسب، بل اختبار لمدى تشابك الملفات الإقليمية وارتباطها بعضها ببعض، بالإضافة إلى تأثيرها على الاستقرار الاقتصادي.
لا بدّ من التأكيد أن فهم تلك الآثار يحتاج للتعمق في الديناميكيات المتعددة التي شكلت الاقتصاد السوري في ظل الصراع، وكيف يمكن للتوترات في فلسطين ولبنان أن تؤثر على الاقتصاد السوري، علما أن تأثير هذه التطورات على الاقتصاد السوري قد ينعكس على مسار الحل المستقبلي. وهنا سأسعى إلى تقديم تحليلات حول تأثير عملية طوفان الأقصى على الاقتصاد السوري في مناطق الصراع، شمال غرب سورية، وشمال شرق سورية، ومناطق النظام.
مناطق النظام... الأسوأ قادم
تدلل كلمة مناطق النظام مجازياً على المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ولكن واقع الحال أن السيطرة تعود للمليشيات الإيرانية، وحتى في القصر الجمهوري هناك أيادٍ إيرانية تحرّض الأسد والعائلة للبقاء تحت مظلة طهران وعدم الخروج عن السياسة العامة لـ"المقاومة والممانعة"، وفي الاقتصاد أيضاً هناك شبكات ورجال أعمال تابعون لإيران ينفذون الأجندة الإيرانية في سورية، لذلك فالأصح القول "مناطق النظام الواقعة تحت السيطرة الإيرانية."
اعتمد النظام على سردية المقاومة ضد الاحتلال منذ وصول عائلة الأسد إلى السلطة، وتوجيه الإنفاق العام نحو الجيش والمؤسسة العسكرية، لتصبح الحرب ضد "إسرائيل" شمّاعة لزيادة الإنفاق على الجيش وإهمال الجانب الاقتصادي والتنموي والتأكيد على سرديته أمام حاضنته الشعبية.
في حين عرف السوريون خلال العقد الماضي أن الجيش والبندقية هي ضد الشعب المطالب بالحرية وتغيير حكم الأسد، وعرف عن تعاقدات الأخير مع "إسرائيل" تضمنت عدم المساس بأمن "إسرائيل" وحماية حدودها. لذا فإن عدواناً على غزة الآن يعد فرصة للنظام لتأكيد سرديته وتبرير الإنفاق على الجيش أولاً، وتعليق الفشل في التنمية والمؤشرات الاقتصادية على الحرب ثانياً. ليصبح الجواب على الأزمات الاقتصادية الحالية التي يعاني منها السوريون حاضراً على ألسنة المسؤولين السوريين.
سينعكس تصاعد النزاع في غزة من خلال محاولة المليشيات الإيرانية زيادة نفوذها على الأرض واستهداف القواعد العسكرية الأميركية لتعزيز موقفها كداعم رئيسي للمقاومة، وفتح جبهات محلية ضد مناطق المعارضة في شمال غرب سورية، أو ضد "الإدارة الذاتية" في شمال شرق سورية على خطوط الجبهة والتماس، لذا من المرجح أن يشهد النظام زيادة في الدعم العسكري من طهران ودعماً سياسياً متزايداً على الساحة الدولية.
كما ستعمل إيران أيضاً بالتعاون مع شبكاتها التجارية على زيادة نفوذها على القطاعات الاقتصادية وتعزيز استثماراتها في سورية، بينها مشاريع البنية التحتية والإعمار والطاقة، وخرق العقوبات الدولية في محاولة لإنعاش الاقتصادي السوري.
سيؤدي ما سبق إلى تشديد السياسات الدولية في تعاطيها مع النظام وإيران، من خلال استهداف المنشآت العسكرية الإيرانية في سورية وتقييد النشاطات الاقتصادية، وقد عمدت "إسرائيل" في هذا الإطار إلى توجيه ضربات جوية لمطاري دمشق وحلب الدوليين أكثر من مرة أدت لخروجهما عن الخدمة، بالإضافة لعدد من الأماكن المرتبطة بالمليشيات. وستشدد وزارة الخزانة الأميركية الرقابة على النظام لمنعه من خرق العقوبات، وهو ما سيزيد الخناق على عمل المؤسسات وحركة التجار وينعكس سلباً على النشاطات الاقتصادية والأوضاع المعيشية.
ومن أبرز ما قد تعاني منه مناطق النظام خلال الفترة القادمة استمرار ضعف قيمة الليرة وارتفاع في سعر الصرف أمام العملات الأجنبية، وصعوبات في تأمين القطع الأجنبي اللازم لشراء المواد الأولية والأساسية ونقصها في الأسواق المحلية، وبالتالي استمرار ارتفاع معدل التضخم. وهو ما قد يدفع النظام لاستكمال العمل بالمخدرات وتقويض السلم الإقليمي، والضرب بمحاولات التطبيع العربية عرض الحائط.
مناطق المعارضة و"الإدارة الذاتية"
لا تزال القضية الفلسطينية تعد الحدث الأبرز على مستوى العالم العربي، والغربي أيضاً، فإذا حصل أي شيء في فلسطين تغيب كل القضايا الإنسانية والنزاعات في العالم لصالح القضية الفلسطينية، لكونها قضية عربية وإسلامية بالنسبة للدول العربية والإسلامية، ولأجل "إسرائيل" بالنسبة للدول الغربية.
وعليه، أحد أبرز الآثار التي يمكن توقعها خلال السنوات القادمة هي انخفاض وتيرة المساعدات الإنسانية لسورية، وانخفاض حجم المساعدات المالية المقدمة للاجئين السوريين في دول اللجوء ومناطق المعارضة في الشمال. وقد ينعكس هذا أيضاً على مشاريع التعافي الاقتصادي المبكر في المنطقة والتي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال الفترة الماضية. علماً أن نسبة العجز في تغطية الاحتياجات المطلوبة بلغ في العام 2022 نحو 52% و45% في العام 2021.
لذا من غير المستبعد أن تزداد فجوة الدعم الإنساني وتمويل الاستجابات لمواجهة التحديات جراء توجه الأنظار والأموال لتغطية الكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
وهنا، لا بدّ من التذكير بضرورة تحول المنظمات من برامج الإغاثة إلى برامج التنمية وتعبئة الموارد المحلية المتاحة باستثمارات مستدامة تزيد من فرصة الصمود والبقاء في ظل نقص التمويل الأجنبي، لا بدّ من تغيير النمط الاقتصادي الذي تعتمد عليه المنظمات من العمل الإغاثي قصير الأجل إلى العمل التنموي طويل الأجل. ولا بدّ من تحويل الأزمة والمحنة إلى منحة تعتمد خلالها المنظمات والمجالس المحلية على ديناميات اقتصادية جديدة تبتعد عن الاعتماد على التمويل الأجنبي وتعزز الاعتماد على الذات.
أما بالنسبة للمناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال شرق سورية، والتي تعتمد في تمويل موازنتها على النفط والغاز والمحاصيل الزراعية بالإضافة إلى تحصيل الرسوم والضرائب من السكان والفعاليات الاقتصادية، بالنظر إلى وفرة الموارد الطبيعية في هذه المنطقة فقد تكون الأقل تأثراً بأي تبعات ناتجة عن الصراع في فلسطين.
قد تواجه "الإدارة الذاتية" تصعيداً أمنياً على حدودها مع قوات النظام والمليشيات الإيرانية التي ستسعى لزيادة نفوذها على الحدود، بالإضافة إلى زيادة الضربات الجوية التركية الموجهة ضد كوادر حزب العمال الكردستاني الملاحق في تركيا على خلفية تبنيه التفجير الأخير في أنقرة.
اقتصادياً، ستحاول "الإدارة" الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية ورفع أسعار النفط والمحروقات المُباع للنظام، أو التفاوض على مكتسبات سياسية جديدة تعزز أوراق "الإدارة" في مستقبل سورية وأي حل قادم.
ومن هنا قد يؤدي الصراع إلى تغيير في التحالفات والعلاقات الدولية، وهو ما يؤثر على الدعم الدولي لـ"الإدارة الذاتية" ومكانتها في المفاوضات السياسية.
وممّا لا شك فيه أن تحول الاهتمام الدولي والموارد بعيداً عن سورية سيؤثر على المساعدات الدولية وبينها المساعدات الأميركية إلى مناطق "قسد"، وعليه قد تتأثر مشاريع ونشاطات التعافي الاقتصادي المبكر.
في النهاية، يبقى أن العدوان الإسرائيلي على غزة يشكل عنصراً مؤثراً في الساحة الإقليمية بالنظر إلى التداعيات المتشابكة وتعقيد المشهد العام في المنطقة.
ستتأثر جميع مناطق الصراع في سورية من حيث انخفاض المساعدات الإغاثية الآتية من الأمم المتحدة جراء انشغال العالم بمساعدة النازحين في غزة والذين فاق عددهم المليون ونصف، إضافة إلى إعادة إعمار القطاع بعد انتهاء العدوان وتأهيل ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية.
قد تطاول مناطق النظام آثار سلبية أكثر من المناطق الأخرى، في حين سيسرّع النزاع في فلسطين خطوة الانتقال نحو الاستثمار والاعتماد على الذات في مناطق المعارضة، وعقد صفقة سياسية في مناطق "الإدارة الذاتية" مع النظام، أما أمنياً وعسكرياً فستحاول المليشيات الإيرانية التوسع وحصد مكاسب ميدانية على الأرض.