تداعيات الحرب الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي 

25 فبراير 2022
مصر من كبار المستوردين للقمح والمواطن يعاني من ارتفاع سعر الخبز (Getty)
+ الخط -

ما إن تنشب أزمة سياسة أو حرب أو كارثة طبيعية بفعل الجفاف أو الفيضانات في جهة من جهات الأرض الأربع خارج المنطقة العربية، حتى ترتبك سياسات الحكومات وتضطرب الموازنات المالية وتنفلت أسعار السلع الغذائية، وتبدأ معاناة المواطن العربي، تلاحقه ضغوط الغلاء ومتطلبات المعيشة، فلا يجد ما ينفّس فيه عن نفسه ويعبّر به عن بؤسه إلا إشعال النار في نفسه، ثم تندلع الاحتجاجات الشعبية وتنفجر الثورات بحثاً عن العدالة الاجتماعية والعيش والحرية. 

والسبب الرئيس في ذلك، اعتماد حكومات المنطقة على غيرها من دول العالم في تأمين غذائها وإطعام شعوبها. فبينما تشكل الدول العربية نحو 5% من سكان العالم، تستورد 20% من كمية الحبوب المتاحة للتجارة الدولية، ولا تنتج سوى 2.5% من الإنتاج العالمي للحبوب. وتستورد نحو 60% من احتياجاتها من القمح اللازم لصناعة رغيف الخبز من روسيا في أقصى شمال شرق أسيا ومن أوكرانيا وفرنسا ورومانيا في أوروبا.

وتستورد 65% من احتياجاتها من زيوت الطعام من ماليزيا وإندونيسيا. وتستورد 25% من الأرز من الهند وتايلاند في جنوب شرق أسيا. وتستورد 65% من أعلاف الحيوانات من الذرة الصفراء وفول الصويا من الولايات المتحدة وكندا في أميركا الشمالية. وتستورد 60% من استهلاكها من السكر من البرازيل في أميركا الجنوبية. وتستورد الحليب ومنتجاته من الجبن والزبد من فرنسا وهولندا والدنمارك في أوروبا. 

وهكذا، تهدر الحكومات العربية الأمن الغذائي وتضع أمن المواطن العربي واستقراره رهن الاستقرار السياسي واعتدال المناخ في تلك الدول المصدرة للأغذية.  

الأزمة المالية في الولايات المتحدة التي اندلعت في سنة 2008، والمضاربة في السلع الغذائية في بورصة شيكاغو واستخدام حبوب الذرة وقصب السكر في إنتاج الوقود الحيوي في البرازيل، وموجات الجفاف في روسيا في سنة 2010، جميعها أزمات وقعت خارج المنطقة العربية، ولكنها سببت أزمة الخبز وغلاء أسعار الغذاء واندلاع ثورات الربيع العربي في دول المنطقة كلها.

وللمفارقة، فإن الاحتلال الأوروبي لمصر والسودان والعراق والشام والمغرب العربي، الذي استمر من نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، لم يكن سبباً في التخلي عن سياسة الاكتفاء الذاتي والتقصير في الأمن الغذائي العربي والتبعية الغذائية للغرب، بل ظلت المنطقة العربية متمتعة بالسيادة الغذائية طوال فترة الاحتلال الأوروبي، كما كانت مستقلة سياسياً وغذائياً حتى نهاية الدولة العثمانية.

وكانت الدول العربية المحتلة سلة الغذاء لدول الاحتلال، تصدّر القمح والقطن والزيوت من العراق ومصر والشام لأوروبا منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين وفي أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية.

ولكن تزامن التخلي عن سياسة الاكتفاء الذاتي والتقصير في الأمن الغذائي العربي والتبعية الغذائية للغرب مع خروج المحتل الأوروبي وظهور الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية.

ولم تكن الهيمنة الأميركية في حاجة لاستخدام القوة لإجهاض مشاريع الاكتفاء الذاتي والسيطرة على الأمن الغذائي العربي. فقد تخلت الأنظمة العربية الثورية التي دعمتها الولايات المتحدة في دول المنطقة عن السيادة الغذائية طواعية، ورهنت الأمن الغذائي للغرب. ومع قيام الثورة الخضراء في أوروبا والولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن الماضي، استخدمت الأخيرة الغذاء سلاحاً لترويض الشعوب وترهيب الأنظمة التي تحاول التحرر من التبعية الغربية. 

وفي الوقت الراهن، تتابع الحكومات العربية بقلق بالغ الغزو الروسي لأوكرانيا والذي سبقه فترة من التوتر السياسي بين روسيا من جهة، وأوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة أخرى. وتتخوف حكومات المنطقة العربية من تداعيات اندلاع الحرب بين الدولتين، كما تتخوف دول جوار الدولتين وربما أكثر. ليس لأن الحكومات العربية حليف لطرف من أطراف الأزمة على حساب الطرف الآخر، ولكن لأن جميع الدول العربية تستورد القمح من روسيا أو من أوكرانيا أو منهما معاً.  

وروسيا وأوكرانيا لهما ثقل دولي في إنتاج الغذاء والحبوب الأساسية، وخاصة القمح والذرة والشعير وزيوت الطعام. ويمكن وصفهما بأنهما سلة غذاء العالم، حيث تتربع روسيا على مقعد أكبر مصدر للقمح في العالم، ورابع أكبر مصدر للذرة. 

وتمثل أوكرانيا رابع أكبر مصدر للقمح وللذرة الصفراء على مستوى العالم. وصدرت الدولتان 30% من القمح المتاح للتجارة العالمية في سنة 2020. وصدرت أوكرانيا وحدها 17% من كمية الذرة والشعير المتاحة للتجارة العالمية في ذات السنة.  

ما يهمنا في المنطقة العربية أن 40% تقريباً من شحنات الذرة والقمح الأوكراني توجه إلى دول المنطقة. وكذلك روسيا هي مصدر رئيسي وتاريخي للقمح إلى مصر وغيرها من دول المنطقة.  

تفضل الدول العربية استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا، المعروفة باسم مناشئ البحر الأسود، لعدة أسباب. الأول، انخفاض أسعار القمح من الدولتين، بسبب انخفاض الجودة التي ترجع إلى زيادة المحتوى الرطوبي، ونسبة الإصابة بالحشرات والفطريات، وانخفاض نسبة البروتين. في العادة تقل جودة قمح البحر الأسود عن الأميركي والكندي بنحو 50 إلى 100 دولار في الطن الواحد.  

هذا العام، غيرت الجزائر من مواصفات القمح المستورد لتتمكن من شراء القمح الروسي بعد أن كانت تعتمد كلياً على القمح الفرنسي الأعلى في الجودة والسعر.

وكذلك خفضت مصر الاشتراطات قبل سنوات لتتمكن من شراء القمح الروسي والأوكراني الملوث بفطر الإرجوت، رغم أنها لم تكن تسمح بدخول هذه النوعية من القمح أراضيها مطلقاً، طمعاً في الشراء بسعر منخفض، رغم أنه يسبب الإجهاض للإنسان والحيوان. 

السبب الثاني، انخفاض تكاليف الشحن البحري للقمح من المناشئ الأوكرانية والروسية إلى النصف تقريباً، بالمقارنة بتكاليف الشحن البحري من المناشئ البعيدة في كندا والولايات المتحدة والبرازيل. فبينما تصل تكلفة شحن طن القمح من الولايات المتحدة إلى 35 دولاراً، تقلّ تكلفة الشحن من روسا وأوكرانيا إلى نحو 20 دولاراً للطن. 

وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا استبعد البعض حدوث الغزو، ورأوا أن التوتر بين الدولتين قد لا يصل إلى مرحلة الحرب الشاملة. فأوروبا التي تجرعت مرارة حربين عالميتين لن تسمح بنشوب حرب عالمية ثالثة على أراضيها. ودول الاتحاد الأوروبي تعتمد على روسيا في تأمين نحو 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وأكثر من 80% من هذا الغاز يمر عبر الأراضي الأوكرانية. 

وإذا قطعت روسيا إمدادات الغاز عن الدول الأوروبية، ربما تجمدت دول عديدة هناك بسبب الجليد. تبحث الدول الأوروبية عن بديل للغاز الروسي في الولايات المتحدة وقطر وغاز شرق المتوسط، لكن عدداً منها لا تزال تعتمد بشكل شبه كامل على الغاز الروسي الأرخص والأقرب خاصة لدول الجوار. 

وعقب وقوع الغزو الروسي، قفزت أسعار القمح والذرة بالحد الأقصى المسموح به في بورصة شيكاغو التجارية خلال تعاملات أمس الخميس، إذ شكل الغزو الروسي لأوكرانيا خطرًا على الإمدادات العالمية من الحبوب الغذائية.  وقفزت العقود الآجلة لكلا المحصولين بأكثر من 5%. 

وألقت الحرب بظلالها على أسواق الحبوب العالمية. حيث ارتفعت أسعار الأغذية. وفي أوروبا، ارتفعت العقود الآجلة للقمح. وكذلك زادت أسعار الذرة الصفراء في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي بنسبة 3.8% عن شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفق مؤشر أسعار الغذاء التابع لمنظمة الفاو التابعة للأمم المتحدة. 

مصر، على سبيل المثال، أكبر مستورد للقمح في العالم بمعدل 13 مليون طن. وتعتمد على روسيا وأوكرانيا بنسبة 91% في تدبير احتياجاتها من القمح. العام الماضي، اشترت نحو 8.9 ملايين طن قمح من روسيا بنسبة 68%، واشترت 3 ملايين طن من أوكرانيا، بنسبة 23% من وارداتها.  

ورغم محاولة التقليل من أثر الأزمة، قال وزير المالية المصري، محمد معيط في 25 يناير الماضي، إن الخزانة العامة تكبدت نحو 12 مليار جنيه (762.3 مليون دولار) إضافية لشراء الحصة المقررة من القمح بسبب ارتفاع الأسعار العالمية.  

ومن أوكرانيا، يشتري لبنان نصف وارداته من القمح، ويشتري اليمن ربع وارداته من القمح، وتشتري ليبيا أقل من نصف احتياجاتها بقليل. 

ومع وقوع الحرب، واجتياح روسيا أوكرانيا، فإن صادرات القمح الأوكراني قد تتوقف، ولا سيما أن المناطق الخصبة لإنتاج الحبوب في أوكرانيا هي المناطق الساخنة والملاصقة للحدود الشرقية مع روسيا، وسيكون للحرب تداعيات خطيرة على الأمن الغذائي العربي والاستقرار السياسي في المنطقة.  

وإذا قررت الولايات المتحدة الاستمرار في سياسة فرض عقوبات اقتصادية على روسيا لتأديبها، فإن صادرات القمح الروسي ستتوقف أيضاً، ما يعني أن الحكومات العربية ستخسر واردات القمح من الدولتين إذا وقعت الحرب. أما إذا استمرت الأزمة، فستدفع تكاليف مالية أكبر، وربما سياسية أيضاً، بما أنها لا تسعى للاكتفاء الذاتي من القمح، باعتباره سلعة استراتيجية. 

المساهمون