بريطانيا بعد الانفصال ... تحديات صياغة العلاقات الاقتصادية والتجارية تطارد حكومة جونسون
حتى الآن يحجب ضباب المفاوضات المتعثرة مع الاتحاد الأوروبي الكثيف الرؤية بشأن مستقبل بريطانيا بعد الانفصال، إذ إن بندول المفاوضات الجارية بين دول الاتحاد وبريطانيا يتأرجح بسرعة وبشكل يومي بين آمال النجاح في التوصل لاتفاق بشأن بريكست وخيبة الفشل.
وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد أكّد الاثنين أن على بلاده أن تستعد لبريكست بدون اتفاق، بينما أشار مفاوضون عن لندن وبروكسل إلى إمكان التوصل إلى اتفاق تجاري في اللحظة الأخيرة.
لكن رغم هذا الضباب، فإن من المؤكد أن بريطانيا سوف تنفصل عن الاتحاد الأوروبي وتصبح دولة مستقلة تماماً عن دوله الـ28 بنهاية العام الجاري، وبالتالي ستواجه تحديات صياغة علاقات تجارية واقتصادية وإجراءات ومعايير مالية واستثمارية جديدة غير خاضعة للمعايير والعلاقات الأوروبية.
وسط تلك الرؤية الضبابية في المفاوضات يذهب محللون إلى أن بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي ستنتهي إلى دولة متوسطة الحجم الاقتصادي في عالم تشكله التجمعات الإقليمية الصاعدة، وبالتالي سيقل نفوذها الاقتصادي والتجاري والسياسي بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
لكن في المقابل يرى داني رودريك بجامعة هارفارد عكس ذلك، ويقول في تعليقات بهذا الشأن أدلى بها لمجلة "نيويوركر" قبل أيام "لا يوجد سبب يمنع بريطانيا من أن تكون دولة ناجحة ومؤثرة بما تملكه من اقتصاد وتاريخ ولغة وحضارة وعلاقات قوية مع المجتمع الدولي".
من جانبه يرى البروفسور نيكولاس بيرن في مدرسة كيندي للعلاقات الخارجية التابعة لجامعة هارفارد أن بريطانيا بدون أوروبا ستواجه مخاطر انفصال اسكتلندا وحدوث اضطرابات في أيرلندا.
لكن من المتوقع أن تعمل أوروبا على مساعدة بريطانيا لتلافي هذه المخاطر، كما أن الشركات الأميركية الكبرى تتجه للاستثمار في أيرلندا وإقليم ويلز واسكتلندا في إطار خطة تنمية الريف البريطاني عبر مناطق التجارة الحرة الـ10 التي تخطط بريطانيا لإنشائها خلال السنوات المقبلة.
وبالتالي ربما تتمكن بريطانيا عبر هذه الاستراتيجية التنموية من رفع مستوى التوظيف وردم فجوة الدخول بين إنكلترا وأقاليم الاتحاد البريطاني الفقيرة. ولكن لا يعني ذلك أن تحدي الانفصال وحدوث اضطرابات بعد بريكست ستنتهي.
من بين التحديات الأخرى التي ستواجهها بريطانيا خلال الشهور الأولى من العام، قضايا الإمدادات الغذائية وحركة التنقل والشاحنات التجارية من وإلى أوروبا وتنظيم الرحلات الجوية وقضايا البطالة والتعامل مع الصناعات الأوروبية المتوطنة في بريطانيا من صناعات سيارات وقضايا شائكة تخص تعاملات أسواق المال وجواز المرور التجاري للمصارف وشركات الوساطة المالية بحي المال البريطاني.
ويرى محللون أن دول الاتحاد الأوروبي لن تكون مرنة مع بريطانيا في هذه القضايا، وربما ستتعامل معها بشكل قاس جداً حتى لا ينجح الانفصال البريطاني اقتصادياً وتجارياً، وبالتالي يشجع الأحزاب والحركات الشعبوية في أوروبا على الانفصال ويصبح تبعاً لذلك الانفصال البريطاني بداية لتفكك مشروع أوروبا الموحدة برمته، وبالتالي من غير المتوقع أن تكون هنالك علاقات مرنة بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأولى من الانفصال.
وتأتي هذه التوقعات على الرغم من التعاون الثلاثي القائم بين بريطانيا وألمانيا وفرنسا على صعيد تنسيق الأمن الأوروبي وقضايا الدفاع وحلف شمال الأطلسي.
على المدى القصير وخلال الشهور المقبلة يتوقع محللون، أن تواجه بريطانيا ارتفاع الأسعار وزيادة البطالة وانكماش النمو الاقتصادي، وربما تراجع سعر صرف الجنيه الإسترليني وانخفاض مؤشر "فوتسي 250"، في حال عدم التوصل لاتفاق يتيح المرور التجاري دون عوائق وجمارك صفرية بين دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. ولكن في حال التوصل لاتفاق تجاري فإن التداعيات السالبة على الاقتصاد ستكون خفيفة.
وحسب توقعات "مكتب مسؤولية الميزانية" البريطاني، مكتب مستقل، فإن الأعمال التجارية والحكومة لم تستعد بشكل كامل للانفصال من السوق الأوروبية الواحدة. ويقدر المكتب أن يتراجع الناتج المحلي البريطاني بنسبة 1% خلال الربع الأول من العام الجاري، كما ستتراجع الإنتاجية بنسبة 4%.
على المدى المتوسط ستواجه بريطانيا خلال السنوات المقبلة بناء الفضاء التجاري الخاص بها بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وبنت الحكومة البريطانية استراتيجية الفضاء التجاري المستقل على مسارين، مسار الشراكات التجارية مع الاقتصادات الكبرى، ومسار التجارة مع الاقتصادات الصغيرة.
على صعيد الشراكات التجارية وقعت بريطانيا حتى الآن اتفاقية شراكة تجارية مع كل من كندا واليابان وسنغافورة وتتفاوض على اتفاقية شراكة مع الولايات المتحدة والهند والعديد من الاقتصادات الكبرى الأخرى. وهذه الشراكات في حال التوصل إلى ترتيبات تجارية مع دول الاتحاد الأوروبي ستغطى نحو 70% من إجمالي تجارتها الخارجية.
على صعيد المسار الثاني أعلنت الحكومة البريطانية في مايو/آيار الماضي عن استراتيجية جديدة للمتاجرة مع دول العالم، التي لا تنوي الارتباط بها عبر شراكات تجارية.
وأعلنت وزيرة التجارة البريطانية ليز تروس في 20 مايو/ آذار الماضي عن نظام جمركي جديد، أطلقت عليه اسم "التعريفة العالمية البريطانية"، وهو نظام أبسط من التعريفة الخارجية التي كانت تتعامل بها ضمن التجارة المشتركة للاتحاد الأوروبي، وستطبق على البلدان التي ليس لديها اتفاق تجاري مع بريطانيا وتزيل جميع التعريفات السابقة التي تقل عن 2%، وهذه التعرفة سيبدأ تطبيقها فوراً بعد تفعيل الانفصال في أول يناير/ كانون المقبل.