تجاعيد في وجه الاقتصاد الصيني... شيخوخة وتباطؤ وديون

28 سبتمبر 2023
ربع سكان الصين يبلغون 65 عاماً أو أكثر (Getty)
+ الخط -

يواجه الاقتصاد الصيني ثلاثة مخاطر، تهدد باتساع التجاعيد التي ترسمها بالأساس معدلات الشيخوخة المتزايدة في البلد الآسيوي العملاق الذي طالما تزايدت التكهنات بقرب إزاحته الولايات المتحدة الأميركية صاحبة أكبر اقتصاد في العالم من الصدارة.

لكن التباطؤ الذي تشهده الصين، بفعل تراجع الاستهلاك، ومحاولات الغرب تقويض صادراتها، فضلاً عن أزمة الديون الشاهقة للقطاع العقاري الضخم، والقيود الأميركية على التكنولوجيا تحمل مزيداً من المتاعب للعملاق الآسيوي، وربما تكبل خطواته نحو تحقيق مزيد من المكاسب في الفترة المقبلة.

ورغم تراجع ضغوط انكماش الأسعار في الصين قليلاً في أغسطس/ آب الماضي، فإنه لا يزال هناك مجال كبير للحذر. فقد تقلص نمو نشاط الخدمات، الشهر الماضي، بينما كانت المحرك الرئيسي للانتعاش بعد جائحة فيروس كورونا في وقت سابق من هذا العام، مما يشير إلى أنه قد تكون هناك حاجة إلى مزيد من الدعم السياسي، لتعزيز إنفاق الأسر في الاقتصاد الذي يقترب حجمه من 18 تريليون دولار.

ودعت هذه الأجواء الكثيرين إلى القلق بشأن إذا ما كانت الصين ستقوم بتصدير الانكماش إلى بقية العالم، نظراً لثقل حجم اقتصادها وتشابكها مع قواعد الاستيراد والتصدير. ووفق تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، فإن الانخفاض العام في الأسعار في الصين أخيراً بمثابة إشارة إلى وجود خلل في الاقتصاد، وهي مشكلة أكبر من وجود خلل في سوق منتج معين.

واليوم تتمتع الصين بمعدلات تضخم سلبية عبر مجموعة من مقاييس الأسعار. فقد انخفضت أسعار المستهلك في يوليو/ تموز للمرة الأولى منذ عامين، قبل أن تعود إلى المنطقة الإيجابية في أغسطس/ آب. وتشكل أسعار المواد الغذائية جزءاً كبيراً من التقلبات، حيث انخفضت أسعار اللحوم بنسبة 14% في يوليو/ تموز على أساس سنوي، قبل أن يتراجع الانخفاض إلى 10.5% في أغسطس/ آب.

هناك أسعار أخرى آخذة في الانخفاض، منها الأجهزة المنزلية. ومن بين 29 فئة فرعية رئيسية نشرت بياناتها الشهر الماضي، انخفضت الأسعار في 20 فئة. كما تراجعت أسعار الصادرات الصينية عبر معظم فئات المنتجات.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

وعلى الرغم من أن أسعار المستهلك ثابتة بشكل عام، فإن الانطباع، من مجموعة واسعة من المؤشرات، هو أن الصين تشهد انخفاضاً عاماً في الأسعار، عبر قطاع التصنيع لديها. وهذا يثير التساؤلات حول ما إذا كان العملاق الآسيوي سيقوم بعد ذلك بتصدير هذا الانكماش إلى بقية العالم. وتقع الصين في نهاية العديد من سلاسل الإنتاج العالمية، وهي أكبر شركة مصنعة في الاقتصاد العالمي.

التباطؤ الصيني يشكل تحدياً للنمو العالمي

يشكل التباطؤ الاقتصادي الصيني تحدياً للنمو العالمي. وسبق أن توقع صندوق النقد الدولي أن تمثل الصين 35% من النمو العالمي هذا العام، لكن هذا الاحتمال يبدو أقل. ويتعزز تراجع الثقة في النمو المستقبلي الصيني مع انخفاض شفافية تقارير بكين عن البيانات الاقتصادية الأساسية.

وفي مطلع أغسطس/ آب، قالت بكين إنها ستتوقف عن نشر أرقام البطالة بين الشباب، بعد أسابيع على وصولها إلى مستوى قياسي بلغ 21.3% في يونيو/ حزيران، وهو جزء من نمط دفن البيانات الاقتصادية غير الملائمة. وكان قمع البيانات الاقتصادية سبباً في تقويض الثقة العالمية، وتفاقم مخاوف السوق، وهي النقطة التي أكدها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان مؤخراً.

وبجانب انكماش الاستهلاك، تعمق أزمات الديون العقارية متاعب الاقتصاد الصيني، حيث قد تتخلص الصين من أزمتها العقارية، لكن الاقتصاد لن ينمو إلا بشكل فاتر، وقد لا يتفوق على الاقتصاد الأميركي على الإطلاق، وفقاً لكلاوس بادر من بنك "سوسيتيه جنرال".

وقال بادر، وهو كبير الاقتصاديين العالميين في البنك الفرنسي، والذي عمل سابقاً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لتلفزيون بلومبيرغ، يوم الاثنين الماضي، إنه، حتى لو نجحت المحاولة الجزئية من قبل السلطات لتحقيق استقرار قطاع الإسكان، فإن البلاد تواجه مشكلات أكثر جدية.

وأضاف أن "أكثر ما يقلقني هو هل ستتمكن الصين من إعادة بناء الثقة في القطاع الخاص، وأعتقد أن هذا يمثل تحدياً أكبر بكثير.. فقد انتهت قصة النمو الصيني العظيم".

وأدت المخاوف بشأن التصفية المحتملة لمجموعة "إيفرغراند" العملاقة إلى انخفاض أسهم العقارات في البلاد بأكبر مستوى في 9 أشهر الاثنين. وفي الأسبوع الماضي، خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتها للناتج المحلي الإجمالي للصين، مشيرة إلى أنه قد لا يتجاوز 5% في العام المقبل.

ووفق كبير الاقتصاديين في "سوستيه جنرال": "أُثيرت تكهنات بشأن متى سيكون الاقتصاد الصيني أكبر من الأميركي، ولا أعتقد أن ذلك سيحدث. لأنه في ظل نموذج التصنيع المعتمد على الإسكان لا يمكنك القيام بذلك إلى الأبد، خاصة عندما يتقلص عدد سكانك".

وأضاف: "تجاوزنا الأسوأ فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي للصين، لكنه سيكون نمط نمو معتدلاً للغاية لا يضاهي الحال التي كان عليها من قبل، وأخشى أن يكون نموذج النمو الصيني قد تحطم، وحتى الآن لم يتوصل أحد إلى نموذج جديد".

الشيخوخة تزيد حجم التجاعيد الاقتصادية

تزيد معدلات الشيخوخة من حجم التجاعيد في وجه الاقتصاد الصيني، فمعدل المواليد يتراجع، بينما ربع السكان يبلغون من العمر 65 عاماً أو أكثر، وتنمو هذه النسبة بنحو نقطتين مئويتين سنوياً، في حين تتراجع نسبة البالغين في سن العمل بالمقدار نفسه تقريباً. كما أن عدداً أقل من الناس يشترون منازل جديدة، وأسعار الشقق تنخفض، ورافعات البناء أقل نشاطاً، وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، الثلاثاء.

وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، أظهرت بيانات حول النمو السكاني والاقتصادي في الصين، أن العملاق الآسيوي، سجل تراجعاً في عدد السكان في 2022 للمرة الأولى في أكثر من ستة عقود، كما سجل البلد ثاني أدنى مستوى نمو في أربعة عقود، ما يحمل مخاطر ليس للاقتصاد الصيني فحسب، وإنما للاقتصاد العالمي أيضاً الذي يعول على دفعة قادمة من الشرق للإفلات من شبح الركود والتعثر.

وشهدت الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة انخفاضاً في معدلات المواليد إلى مستويات قياسية، بالتزامن مع تقدم قوتها العاملة في العمر، وهو انخفاض سريع يحذّر محللون من أنه قد يعوق النمو الاقتصادي، ويراكم الضغوط على الخزينة العامة المنهكة.

وحسب ما أفاد المكتب الوطني للإحصاء، فقد انخفض عدد السكان بنحو 850 ألف نسمة في 2022، مقارنة بالعام الذي سبقه. إذ سجلت البلاد 9.56 ملايين ولادة و10.41 ملايين وفاة. وتعود المرة الأخيرة التي سجل فيها انخفاض عدد السكان في الصين إلى مطلع الستينيات، عندما واجهت البلاد أسوأ مجاعة في تاريخها الحديث، بسبب السياسة الزراعية الكارثية لماو تسي تونغ المعروفة باسم "الوثبة الكبرى للأمام".

وعام 2016 أنهت الصين "سياسة الطفل الواحد" التي فرضتها في الثمانينيات، بسبب مخاوف من زيادة سكانية هائلة، وعام 2021 بدأت في السماح للأزواج بإنجاب ثلاثة أطفال. لكن هذا الإجراء لم ينجح في عكس مسار التدهور الديموغرافي في بلد كثيراً ما اعتمد على القوة العاملة لديه، بوصفها محركاً للنمو الاقتصادي.

ووفق الخبير الاقتصادي الأميركي، مايكل إي أوهانيون، في دراسة بمعهد بروكنغز للدراسات في واشنطن، فإن التحول الديموغرافي في الصين سيشكل في السنوات والعقود القادمة من القرن الحادي والعشرين، قيداً رئيسياً على نمو القوة العاملة الصينية في الصين، إذ إن عدد السكان في سن العمل بلغ ذروته في عام 2011 بأكثر من 900 مليون نسمة.

قيود أميركية تضر الجميع

وسط هذه الضغوط على الاقتصاد الآسيوي الضخم تفرض الولايات المتحدة مزيداً من القيود من أجل كبح تقدم الصين، رغم التحذيرات من انعكاس ذلك سلبياً على الاقتصاد الأميركي والعالمي.

وأشار تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية إلى أنه ليس هناك شك في أن الحكومة الأميركية قررت إبطاء النهضة الاقتصادية للصين، وعلى الأخص في مجالات التطور التكنولوجي.

وأظهرت إدارة الرئيس جو بايدن أن رؤيتها تمتد إلى ما هو أبعد مما أقدم عليه الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي فرض رسوماً جمركية واسعة على السلع الصينية. وحاولت إدارة الرئيس الحالي الضغط على الصين، من خلال حظر تصدير الرقائق، ومعدات أشباه الموصلات، وبرامج مختارة. كما أقنعت حلفاءها، مثل هولندا واليابان، بأن يحذوا حذوها.

وفي التاسع من أغسطس/ آب، أصدرت واشنطن أمراً تنفيذياً يحظر الاستثمارات الأميركية في الصين التي تنطوي على "تقنيات ومنتجات حساسة في أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، وقطاعات الذكاء الاصطناعي التي "تشكل تهديداً حاداً للأمن القومي بشكل خاص". بسبب قدرتها على تحقيق تقدم كبير في القدرات العسكرية، أو الاستخباراتية، أو المراقبة، أو القدرات السيبرانية للصين.

كل هذه التصرفات تؤكد أن الحكومة الأميركية تحاول وقف نمو الصين. لكن "فورين بوليسي" وصفت القرار الذي اتخذته أميركا بإبطاء التطور التكنولوجي في الصين بأنه أشبه بالحماقة التي كشفت عنها العبارة المبتذلة القديمة "إغلاق باب الحظيرة بعد فرار الحصان"، مشيرة إلى أن الصين الحديثة أظهرت مرات عديدة أن التطور التكنولوجي فيها لا يمكن وقفه.

ومنذ إنشاء جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، بُذلت العديد من الجهود للحد من قدرة الصين على الوصول إلى العديد من التقنيات الحيوية، أو إيقاف تطورها، بما في ذلك الأسلحة النووية، والفضاء، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وأشباه الموصلات، وأجهزة الكمبيوتر العملاقة، والذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك تمتلك الصين حوالي 540 قمراً صناعياً في الفضاء حالياً، وتطلق منافساً لستارلينك. كما قامت الصين ببساطة ببناء نظامها الموازي لنظام بيدو العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية (GNSS) في واحدة من الموجات الأولى من الانفصال التكنولوجي الرئيسي.

ولفتت المجلة الأميركية إلى أن تدابير حرمان الصين من الوصول إلى الرقائق الأكثر تقدماً يمكن أن تلحق الضرر بالشركات الأميركية الكبيرة لصناعة الرقائق أكثر مما تضر الصين. فالصين هي أكبر مستهلك لأشباه الموصلات في العالم.

وعلى مدى السنوات العشر الماضية، كانت الصين تستورد كميات هائلة من الرقائق من الشركات الأميركية. ووفقاً لغرفة التجارة الأميركية، استوردت الشركات التي تتخذ من الصين مقراً لها ما قيمته 70.5 مليار دولار من أشباه الموصلات من الشركات الأميركية في عام 2019، وهو ما يمثل حوالي 37% من المبيعات العالمية لهذه الشركات.

وتستمد بعض الشركات الأميركية، مثل "كورفو"، و"تكساس إنسترومنتس"، و"برودكوم"، نحو نصف إيراداتها من الصين. 60% من إيرادات "كوالكوم"، وربع إيرادات "إنتل"، وخمس مبيعات "إنفيديا" تأتي من السوق الصينية. وسوف تتضرر الشركات الأميركية أيضاً من الإجراءات الانتقامية من جانب الصين، مثل الحظر الذي فرضته الصين في شهر مايو/ أيار الماضي على رقائق شركة "ميكرون تكنولوجي"، ومقرها الولايات المتحدة. وتمثل الصين أكثر من 25% من مبيعات "ميكرون".

المساهمون