أضحت الكثير من الدول العربية على أعتاب سقوط معيشي بفعل انهيار قيمة عملاتها الوطنية أمام الدولار الأميركي، وهو ما فعل في بعض البلدان ما لم تفعله الحروب، ليعد السيناريو اللبناني نموذجاً صارخاً عن الانهيار المالي والمعيشي، وربما يتكرر في دول أخرى تشهد تهاوياً اقتصادياً أضحت معه على حافة الإفلاس.
ولم تعد ثروات النفط في العديد من الدول العربية مانعاً للانهيار المالي كما كان سابقاً، بل أضحت سبباً رئيسياً في السقوط الاقتصادي في السنوات الأخيرة، فالجزائر والعراق وبعض الدول الخليجية الغنية بالنفط تعتصرها أزمات مالية، وإن كانت أقل قسوة من بلدان أخرى تشهد صراعات سياسية ومسلحة، فعل الدولار بها نفس مفاعيل الحرب لتتضاعف أزماتها.
ومنذ أكثر من عام، يعيش لبنان أسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، أدت إلى انهيار مالي غير مسبوق، وتراجع حاد في احتياطي العملات بالمصرف المركزي، وارتفاع جنوني بأسعار السلع الغذائية والمحروقات، لتشهد الأسابيع الأخيرة ذروة الانهيار المعيشي.
واهتزت الليرة اللبنانية في ديسمبر/كانون الأول 2019 حيث بلغ سعر صرف الدولار الأميركي حينذاك 2000 ليرة، بعدما صمدت على مدى 20 عاماً عند حدود 1515 ليرة، وفق دراسة نشرتها شركة "الدولية للمعلومات" الخاصة أخيراً، ليستمر بعدها تدهور العملة الوطنية تدريجياً حتى وصل سعر صرف الدولار الواحد في منتصف مارس/آذار الماضي إلى 15 ألف ليرة، قبل أن يستقر عند 12500 ليرة حالياً.
وفي ظل انهيار الليرة، تخرج مقترحات بتعويم سعر الليرة، إلا أن هذا السيناريو يبدو مفزعا للكثيرين، حيث تشهد الأسواق بالأساس انفلاتا في أسعار مختلف السلع وتردياً في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، بينما ساهمت الأزمة الاقتصادية في ارتفاع نسبة الفقر إلى معدلات قياسية.
وكان حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، قد دعا في 8 يناير/كانون الثاني الماضي، للاتجاه نحو تعويم سعر صرف الليرة اللبنانية، معتبرا أن عصر تثبيت سعر الصرف "انتهى". كما يعد تعويم الليرة أحد أبرز شروط صندوق النقد الدولي، للبدء في التفاوض للحصول على سيولة دولارية تساعد في حل الأزمة المالية المتفاقمة.
لكن محللين اقتصاديين يؤكدون أن تعويم الليرة بشكل رسمي سيزيد من حدة الأزمة، مشددين على أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تدهور أكثر لقيمتها، مما يعني مزيداً من التضخم في الأسعار وتراجع القدرة الشرائية وزيادة معدلات الفقر.
وارتفع معدل الفقر في لبنان خلال 2020 إلى 55%، بينما تزايد معدل الذين يعانون من الفقر المدقع بثلاثة أضعاف، من 8% إلى 23%، وفقا لتقرير حديث صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا "الإسكوا".
تضخم فاحش في السودان
ولا يبدو أن سيناريو الانهيار المالي في لبنان، سيكون حالة متفردة في المنطقة العربية، فدول مثل تونس والجزائر والسودان على أعتاب سيناريوهات مشابهة.
فالسودان يشهد موجات غلاء لا تتوقف وصعوبات معيشية متفاقمة مع اتخاذ الحكومة إجراءات تصفها بالإصلاحية منها تعويم الجنيه السوداني وفق اشتراطات صندوق النقد الدولي، الذي يصر على تحرير سعر الصرف وإلغاء دعم الوقود، ورفع الضرائب، وزيادة تعرفة الكهرباء، معتبرا أن ذلك سيؤدي إلى تقليل التشوهات في الاقتصاد وتسهيل ضبط أوضاع المالية العامة، وإعفاء السودان من ديونه. وفي سابقة هي الأولى من نوعها، قفز سعر صرف الدولار إلى نحو سبعة أضعافه رسمياً أمام الجنيه، فور إعلان الحكومة الانتقالية عن تعويم جزئي لسعر الصرف في 21 فبراير/ شباط الماضي، ليصل إلى 375 جنيها بدلاً من 55 جنيها، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار مختلف السلع، في البلد الذي يشهد بالأساس انفلاتاً في معدل التضخم.
وتظهر البيانات الرسمية تسارع وتيرة ارتفاع أسعار المستهلكين (التضخم) منذ بداية العام الماضي، حيث ارتفع على أساس سنوي في فبراير/ شباط الماضي إلى 331%، بينما كان في يناير/ كانون الثاني 2020 نحو 64.2%.
وتسبب تعويم الجنيه في انفلات أسعار مختلف السلع الاستهلاكية الضرورية، سواء المستوردة من الخارج أو المصنعة محلياً، بينما لم تنته المضاربات في العملة الأميركية، حيث يزداد اكتنازها من قبل أصحاب المدخرات والمستثمرين في مختلف الأنشطة في ظل ارتفاع قيمتها مقابل العملة الوطنية وشح موارد النقد الأجنبي.
وقال المحلل الاقتصادي، مصطفى عبدالله، لـ"العربي الجديد" إن العملة الأجنبية صارت مخزناً للقيمة، حيث صار المستثمرون والمضاربون يبنون توقعاتهم على حركة سعر الصرف ويجنون أرباحا طائلة من هذه الحركة.
بدوره أشار الخبير الاقتصادي، هيثم فتحي، إلى ارتفاع الدولار في السوق الموازي (السوداء) إلى 383 جنيها في الأيام الأخيرة، رغم تطبيق سياسة توحيد سعر الصرف، مؤكدا أن تهاوي قيمة العملة الوطنية تسبب في الإضرار بالمواطنين الذي يعانون بشكل أكبر من ارتفاع أسعار مختلف السلع.
فقر مدقع في العراق
ولم تمنع ثروات النفط من انهيار الوضع المالي في العراق الذي يشهد ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات الفقر، بينما أقدمت الحكومة قبل أسابيع على خفض قيمة الدينار بشكل حاد أمام الدولار الأميركي في ظل الأزمة المالية التي تشهدها البلاد.
ووفق تقرير حديث لوزارة التخطيط، قفزت نسبة الفقر إلى 31.7% في نهاية العام الماضي 2020، بينما كانت نحو 20% في عام 2018، حيث أضحى عدد الفقراء يعادل نحو 11.4 مليون نسمة.
وتسبب قرار السلطات العراقية نهاية العام الماضي، في خفض قيمة الدينار أمام الدولار من 1200 دينار للدولار الواحد إلى 1450 دينارا، في ارتفاع واضح في أسعار السلع وخصوصا المواد الغذائية التي وصل ارتفاع أسعار بعضها إلى ضعفين أو ثلاثة، الأمر الذي انعكس بشكل واضح على الوضع المعيشي للعراقيين.
وأكد عضو البرلمان العراقي، عباس الزاملي لـ"العربي الجديد"، أن "خفض سعر الدينار أثر بشكل كبير جدا على الأسعار التي ارتفعت في ظل وجود عجز من قبل السلطات للسيطرة عليها، وعدم قدرة وزارة التجارة على توفير مفردات البطاقة التموينية"، مؤكدا أن التأثير الأكبر وقع على الطبقات الفقيرة والهشة ذات الدخل المحدود.
كما أكد عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان، فلاح الخفاجي، أن أعباء زيادة سعر صرف الدولار وقعت على المواطن البسيط، موضحا في تصريح لـ"العربي الجديد" أن الذين رفعوا سعر الصرف تناسوا معاناة المواطنين، بينما الطبقة الغنية وحدها ستستفيد من ذلك.
في المقابل، اعتبر مدير المحاسبة في البنك المركزي، إحسان شمران، أن "السعر الحالي للدولار معقول جدا، وبالتالي فإن البنك استقر عليه"، مشيرا إلى أن رفع سعر الدولار مقابل الدينار "تأخر كثيراً".
لكن الخبير الاقتصادي، جبار المشهداني، قال إن المواطن يعاني بسبب الارتفاع في الأسعار الناتج عن زيارة سعر صرف الدولار، مشيرا إلى أن الوضع الحالي يدفع البعض للقول إن "العراق قد يشهد ثورة جياع".
ولفت إلى أن القدرة الاقتصادية للمواطن بدأت بالضعف بشكل كبير في ظل التخبط في السياسة الاقتصادية، والتلاعب في سعر الصرف.
وبحسب علاء فاضل، وهو أحد تجار المواد الغذائية في منطقة جميلة في العاصمة بغداد، فإن الأسعار ارتفعت بشكل حاد خلال الأسابيع الأخيرة، كون أغلب السلع مستوردة من الخارج بالعملة الصعبة، موضحا لـ"العربي الجديد" أن نسبة الزيادة وصلت إلى 3 أضعاف لبعض المواد مثل زيت الطعام.
أزمة تاريخية للدينار الجزائري
وفي الجزائر، يواصل الدينار تراجعه التاريخي أمام العملات الأجنبية، وسط خطاب حكومي مخفف للمخاوف، بينما الواقع يشير إلى اكتواء جيوب الجزائريين من غلاء المعيشة، بسبب القفزات الكبيرة التي سجلتها الأسعار.
وسجل سعر الصرف في التعاملات الرسمية، نهاية مارس/ آذار الماضي، نحو 133 ديناراً للدولار الواحد، بينما كان سعره 83 دينارا للدولار قبل أزمة تهاوي أسعار النفط في 2014.
وأثر فقدان الدينار لبريقه المتسارع بالإضافة إلى تهاوي عائدات النفط، على احتياطي الجزائر من العملة الصعبة، الذي قُدر حاليا بـ 42 مليار دولار، بينما كان يتخطى 194 مليار دولار في نهاية 2013.
وقال الخبير المالي، نبيل جمعة لـ"العربي الجديد" إن "تهاوي الدينار يأتي تحت ضغط ركود الاقتصاد الذي تفاقم مع بداية جائحة فيروس كورونا".
ورغم تأكيد الأرقام لمرور الدينار الجزائري بأسوأ أيامه منذ قرابة 4 عقود، أي منذ أزمة 1986، إلا أن الحكومة الجزائرية تسعى جاهدة لإخفاء أزمة العملة الوطنية بتصريحات تقلل من تداعيات الأزمة.
ويشير مواطنون وخبراء اقتصاد إلى أن الأزمة المالية تطاول المعيشة بشكل كبير. ومع كل ارتفاع للأسعار، يتجدد السجال حول القدرة الشرائية للجزائريين.
وقال الخبير الاقتصادي، جمال نور الدين، إن "ما كان يشتريه المواطن الجزائري مقابل 600 دينار سنة 2013 أصبح يشتريه بـ1000 دينار اليوم، أو أكثر، وبالتالي فإن القدرة الشرائية للمواطن فقدت قرابة ثلث قوتها، وهو أمر خطير إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الحكومة لم تقم باتخاذ إجراءات مقابلة، كرفع الرواتب أو دعم أكثر لأسعار المواد واسعة الاستهلاك".