أمس السبت تحدّت قوة مسلحة تضم نحو 25 ألفاً من المرتزقة والجنود المأجورين، روسيا صاحبة ثاني أقوى جيش في العالم، حيث أعلن قائد قوات مجموعة "فاغنر" العسكرية يفغيني بريغوجين أن قواته سيطرت على المنشآت العسكرية والمطار العسكري في مقاطعة روستوف الروسية.
الموقع حساس جداً بالنسبة لروسيا والحرب في أوكرانيا، إذ يعتبر المقر العام لقيادة الجيش في مدينة روستوف، مركزاً أساسياً للحرب هناك.
كما سيطر مقاتلو فاغنر الروس أيضاً على جميع المنشآت العسكرية في مقاطعة فورونيج التي تقع على الحدود مع أوكرانيا على بعد 500 كيلومتر جنوب موسكو، وإسقاط مروحية للجيش حاولت قصف قواتها.
وصل التحدي بقائد فاغنر إلى القول إنه قريباً سيكون لروسيا رئيس جديد، وهو ما يعني إزاحة بوتين عن منصبه، ليتخطى بذلك كل الخطوط الحمراء
ووصل التحدي بقائد فاغنر إلى القول إنه قريباً سيكون لروسيا رئيس جديد، وهو ما يعني إزاحة بوتين عن منصبه، ليتخطى بذلك كافة الخطوط الحمراء المرسومة حتى للمعارضة بشكل شديد الصرامة في دولة ديكتاتورية يحكمها حاكم مستبد.
تطورت الأحداث سريعاً بعد ذلك، فقد هدد بريغوجين بالتوجه إلى موسكو، وبالفعل تحركت قافلة من مقاتلي فاغنر تضم نحو 5 آلاف مقاتل لتقترب من ضواحي العاصمة، رغم تحذيرات بوتين وتوعّده برد قاس على "الخيانة".
إعلان قائد "فاغنر" وتحركاته المباغتة للدولة الروسية وتمره المثير مثّل صدمة للجميع، روسيا ودول العالم والعواصم الغربية، وكذا لأسواق المال والمستثمرين ووكالات التصنيف الدولية.
ففي الداخل، ظهر فلاديمير بوتين بمظهر الضعيف العاجز الذي تتحداه قوة مسلحة تعمل خارج القانون قوامها 25 ألف مقاتل كانت تدعمه داخليا وخارجيا حتى وقت قريب، ورفضت مرارا الانضواء تحت مظلة وزارة الدفاع الروسية.
ووسط مخاوف من اتساع نطاق الاضطرابات في روسيا، سارع بوتين إلى وصف قائد فاغنر بالخائن، والتأكيد على أنه لن يسمح بحدوث "حرب أهلية" جديدة في روسيا.
وأعطى أوامره بتشديد الإجراءات الأمنية في موسكو، وإخضاع المواقع الأكثر أهمية، وأجهزة الدولة ومنشآت النقل، لإجراءات أمنية مشدّدة.
كما أعلنت لجنة مكافحة الإرهاب الروسية فرض نظام مكافحة الإرهاب بالعاصمة ومقاطعة موسكو، تحسبا لما وصفتها بأعمال إرهابية.
ظهر بوتين بمظهر الضعيف العاجز الذي تتحداه قوة مسلحة تعمل خارج القانون قوامها 25 ألف مقاتل كانت تدعمه حتى وقت قريب
هذه بالطبع خطوات أقل كثيرا من المتوقع، حيث كانت التوقعات تصب في اتجاه تدمير موسكو فاغنر والمنتسبين إليها، لا الدخول معهم في مفاوضات والاستجابة لمطالبهم ومنها إسقاط التهم الموجهة إلى قائدهم.
عالمياً، شهدت الأسواق ارتباكا شديدا عقب تفجّر أزمة المرتزقة الروس، إذ ارتفعت أسعار النفط، وسارع المستثمرون نحو حيازة الملاذات والأصول الآمنة مثل السندات الأميركية والدولار والذهب.
وتوقعت "فوربس" أن يكون لتمرد مجموعة فاغنر تداعيات سريعة على أسواق الطاقة العالمية. وقالت وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد أند بورز، إن التطورات الأمنية الجارية في روسيا أثارت مخاوف بشأن أمن إمدادات السلع الرئيسية المنتجة في البلاد، مثل الطاقة والحبوب.
هذه المخاوف العالمية مبررة، فروسيا لا تزال تمثل رقماً صعباً في الاقتصاد الدولي، خاصة على مستوى صادرات الطاقة، سواء النفط والغاز، والسلع الأولية والحبوب والقمح والفحم والحديد والألمنيوم والخشب والذهب، والماس، والنحاس، وكذا صادرات الأسلحة.
ورغم انتهاء أزمة "فاغنر" وقبول قائدها وساطة الرئيس البيلاروسي، وأمره قواته بالعودة إلى معسكراتها والتراجع عن محاصرة موسكو واقتحامها، فإن خطر تلك القوة المسلحة غير الشرعية لا يزال قائماً.
الأسواق العالمية باتت تتعامل مع هذا التمرد على أنه خطر جيوسياسي آخر لا يهدد فقط روسيا ونظامها السياسي، بل يهدد العالم أجمع
فالأسواق العالمية باتت تتعامل مع هذا التمرد على أنه خطر جيوسياسي آخر لا يهدد فقط روسيا ونظامها السياسي، بل يهدد العالم أجمع.
خطر جديد يضاف إلى المخاطر الحالية، ومنها الحرب في أوكرانيا، والتوتر الصيني الغربي، ومخاطر الركود والتضخم والتشدد النقدي والدين العالمي.
"فاغنر" ليست القوة المسلحة الوحيدة في العالم والتي باتت تنافس الجيوش النظامية وتمتلك ثروات وأصولا ضخمة، وتلجأ إليها الحكومات في حروبها الخارجية كما تفعل روسيا في أوكرانيا، فقد سبقتها "بلاك ووتر" التي ارتكبت مئات من جرائم القتل وإبادة المدنيين في العراق والشرق الأوسط وغيره.
بل إن هناك دولاً في المنطقة دعمت هؤلاء المرتزقة وحاولت خلق كيانات عسكرية موازية للجيوش النظامية لمساعدتها في المهام القتالية التي تتم خارج حدودها. رأينا تلك المليشيات المسلحة تمارس جرائمها في ليبيا وسورية واليمن والسودان والعراق والصومال وغيرها من البلدان الأفريقية.
بزنس المرتزقة وتجنيد العسكريين المأجورين مقابل رواتب شهرية سخية تحوّل إلى نوع من الاستثمار المربح بدأ يتسع نطاقه يوما بعد يوم.
بزنس المرتزقة وتجنيد العسكريين المأجورين مقابل رواتب شهرية سخية تحوّل إلى نوع من الاستثمار المربح بدأ يتسع نطاقه يوما بعد يوم
ويكفي القول بأن عائدات شركات الأمن الخاصة قدرت بنحو 400 مليار دولار في عام 2020، وأن مجموع أرباح هذه الشركات في المنطقة العربية بلغ نحو 45 مليار دولار في الفترة من عام 2011 وحتى 2014.
وأن دولاً وجيوشاً نظامية باتت تعتمد على هؤلاء المرتزقة في تنفيذ مهام قتالية، وهو أمر خطير، وما يحدث في السودان حالياً أبرز مثال على ذلك، فالجيش السوداني بات وجهاً لوجه أمام مليشيا الدعم السريع التي تدعمها بعض دول المنطقة.