هاجس احتواء التنين الصيني يطارد الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ سقوط الإمبراطورية الشيوعية في عقد التسعينيات الماضي، والصعود الاقتصادي الكبير الذي شهدته الصين في أعقاب أزمة المال العالمية في العام 2008.
ووفق تقرير لمركز الأبحاث الاقتصادية والأعمال التجارية البريطاني، فإن جائحة كورونا ستسرع النمو الاقتصادي الصيني، وستقود إلى تفوق الاقتصاد الصيني على الاقتصاد الأميركي بحلول العام 2028. وهذا يعني أن الاقتصاد الصيني ربما يصبح أكبر من نظيره الأميركي بخمس سنوات من التوقعات السابقة.
وفي الأسبوع الماضي أصدرت لجنة الأمن القومي الأميركي تقريرها في واشنطن حول صناعة "الذكاء الاصطناعي" والتقدم التقني في الصين، وتهديده لمستقبل التفوق الأميركي والتداعيات المترتبة على النظام العالمي الذي تقوده واشنطن.
وقالت اللجنة التي ضمت كبريات الشركات التقنية في الولايات المتحدة، إن "العالم يواجه مرحلة جديدة من المنافسة مع الصين، ستقود إلى تغيير مواقع الهيمنة في العالم، وأن على الولايات المتحدة إما أن تحدد شكل هذا التغيير المقبل وتحافظ على هيمنتها، وإما أن تخسر المعركة وتزاح من مركز الدولة العظمى".
ومن الواضح أن التقنية والتمدد الاقتصادي واحتكار الأسواق والمواد الخام في العالم باتت من أهم عوامل التفوق العالمي للدول. من هذا المنطلق يتوقع خبراء أن تتغير "اللهجة الهادئة" التي بدأ بها الرئيس جوزيف بايدن خطته تجاه الصراع مع التنين الأصفر، ووفق هؤلاء ربما تكون اللهجة أكثر شراسة مع تواصل الانتعاش الاقتصادي الكبير الذي تعيشه الصين التي خرجت مبكراً من جائحة كورونا، وتواصل صادراتها التمدد في الأسواق العالمية.
وتشير استراتيجية بايدن إلى أنه يخطط للتحالف مع "الاقتصادات الديمقراطية " في آسيا وأوروبا لاحتواء التمدد الصيني. ولكن تنفيذ استراتيجيته يواجه عقبات مع العديد من الحلفاء الرئيسيين.
في أولى خطوات تفعيل الاستراتيجية، عقد الرئيس الأميركي بايدن في الأسبوع الماضي اجتماعاً مطولاً عبر "فيديو كونفرنس"، مع كل من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ورئيس الوزراء الياباني يوشهيدي سوغا ورئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، لبحث خطط "التحالف الجديد" المخطط لتقليم أظافر الصين في آسيا. وقال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون آسيا في أعقاب الاجتماع "نعمل مع الهند لمواجهة التحدي الصيني".
من جانبها قالت مديرة لاوي الأسترالي، ناتاشا قسام لوكالة بلومبيرغ الأميركية في تحليل قبل يومين، "الدول الثلاث يمكنها الاتفاق حول إنتاج اللقاحات ضد كوفيد 19 وتمويل البنية التحتية في دول جنوب شرقي آسيا، ولكنها قد لا تتفق في قضايا الأمن القومي".
على صعيد الهند، وحسب تحليل بصحيفة "وول ستريت جورنال"، قدم الرئيس بايدن مغريات للهند في الاجتماع. ومعروف أن لدى الهند علاقات متوترة مع بكين وصلت إلى درجة المعارك الحدودية. وفي أعقاب الاجتماع قال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون آسيا "نعمل مع الهند لمواجهة التحدي الصيني".
ومن بين المغريات الأميركية التي قدمها بايدن للهند قيام شركة "جونسون آند جونسون" بتصنيع لقاحات كوفيد 19 في الهند، وتصديرها إلى الدول الآسيوية الصغيرة التي تستميلها بكين حالياً بمنحها اللقاحات ضد فيروس كورونا. ويقدر مسؤول أميركي أن تتمكن "جونسون آند جونسون" من إنتاج ملياري جرعة من اللقاحات في العام 2022.
وتأمل الهند أن تشكل هذه اللقاحات بداية للاستثمار الأميركي الواسع الذي تنتظره من الشركات الأميركية، خاصة شركات التقنية الأميركية التي تصنع جزءا من مكوناتها ومنتجاتها في الصين. وقد أعدت الحكومة الهندية خطة لجذب الشركات الأميركية من بينها إنشاء منطقة تجارة حرة ضخمة لاستقبال الشركات الأميركية.
ولكن يرى محللون أن العلاقات الأميركية تواجه ثلاث عقبات في الوقت الراهن، وهي: أن حكومة رئيس وزراء الهند مودي تتفاوض منذ مدة مع موسكو حول شراء أنظمة الصواريخ الروسية "أس 400"، وهي أنظمة تعرضت بسببها بعض الدول للعقوبات الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ولم تغير الإدارة الأميركية سياستها تجاه مبيعات الأنظمة الدفاعية الروسية. وترغب الهند في السماح لها بإكمال هذه الصفقة دون مضايقات في وقت تواجه فيه تهديدات عسكرية من الصين.
أما العقبة الثانية، فهي أن الحكومة الهندية هددت بسجن موظفين في شركات تقنية أميركية، من بينها فيسبوك وتويتر، قالت إنهم خرقوا قوانين "الحفاظ على سرية المعلومات" الهندية. ومثل هذه العقوبات في حال تنفيذها فإنها ستعوق عملية تحول الشركات الأميركية من الصين إلى الهند. والعقبة الثالثة التي تعترض تطور التحالف بين واشنطن ونيودلهي، تخص حرية حقوق الإنسان، إذ تواجه الحكومة الهندية انتقادات من قبل واشنطن بشأن تعاملها مع احتجاجات المزارعين في الهند.
ولكن يبدو أن التحدي الصيني لمستقبل كل من الولايات المتحدة والهند أكبر من هذه العقبات، إذ تحرص الهند على تمتين العلاقة مع الولايات المتحدة في سبيل الحصول على التقنية المتقدمة، وتدفق الاستثمارات الدولارية الضخمة في اقتصادها.
وفي المقابل فإن الولايات المتحدة تحرص على التعامل مع حليف قادر على منافسة الصين في آسيا، ومحاصرة تمددها وقدرة أسواقها على جذب المستثمر الأميركي الباحث عن الربحية التي تعوضه الربحية التي كان يحصل عليها في الصين.
ويرى محللون أن ذلك لا يتوفر إلا في الهند. فالاقتصاد الهندي مرشح للنمو السريع خلال العام الجاري، إذ تشير توقعات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي الصادرة الأسبوع الماضي، إلى أن الاقتصاد الهندي سينمو بمعدل 12.6% خلال العام الجاري والعام المقبل. وهذا المعدل سيعيد الهند إلى مكانة أسرع الاقتصادات العالمية نمواً.
وتقدر مؤسسة "تريدينغ إيكونومكس" أن يبلغ حجم الاقتصاد الهندي نحو 2.8 تريليون دولار في العام 2021، كما تقدر أن يبلغ عدد سكانها بنحو 1.38 مليار نسمة. وتعد الهند من الدول التي تنمو فيها الطبقة الوسطى بسرعة مقارنة بالدول الآسيوية، كما توجد بها عمالة مؤهلة تقنياً ورخيصة في ذات الوقت، وهو ما يعني استقرار النظام الديمقراطي وزيادة القوة الشرائية. وهذه العوامل تجعلها الخيار الأفضل للشركات الأميركية الباحثة عن بديل للصين في التصنيع الرخيص وتحقيق الأرباح العالية من المبيعات.
ومن الواضح أن استراتيجية بايدن لاحتواء الصين تركز على الهند في آسيا، وتعمل على تمتين التحالف القائم بين الهند واليابان وأستراليا، ودفع الدول الأوروبية نحو مساعدة هذا التحالف عبر الاستثمار في اقتصادات الديمقراطيات الصغيرة، ومساعدتها تجارياً لإخراجها من شراك الابتزاز الصيني.
وعلى الرغم من اتفاق وجهات النظر حول أهمية محاصرة الصين تجارياً وتقنياً وتمتين التعاون بين شركاء الولايات المتحدة الكبار في آسيا، وهم كل من الهند وأستراليا واليابان، إلا أن هنالك قضايا خلافية بينهما تخص قضايا الأمن القومي.
ويذكر أن التحول الذي شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية التي ساهمت في صعود الولايات المتحدة إلى منصة الهيمنة العالمية تغيرت كثيراً خلال السبعة عقود الماضية، إذ إن الاقتصاد الأميركي كان وقتها يعادل نصف حجم الاقتصاد العالمي، واستفاد من إعادة بناء الاقتصادين الياباني والألماني في التمدد الصناعي والتجاري.
أما الآن فإن الصين استعادت قوتها الاقتصادية التجارية والاقتصادية، وتعمل على بناء مؤسسات مالية واقتصادية بديلة للنظم المالية والنقدية التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة في الهيمنة على النظام العالمي. وأسست الصين في هذا الصدد تجمع بريكس وبنوكا دولية مشتركة، منها بنك التنمية الآسيوي، وتعمل على تدويل اليوان وزيادة نفوذها في صندوق النقد والبنك الدوليين. وبالتالي فإنها تعد لبناء نظام عالمي جديد متكامل يؤهلها لأخذ مكانة الدولة الأولى خلال العقود المقبلة.