لأن العواطف مؤجلة بالسياسة، ولأن البراغماتية إكسير "اللعبة الانتخابية" التي أحالت أصدقاء الأمس إلى أعداء، والعكس بالنسبة لتركيا صحيح، بواقع ما نراه من تهافت أنقرة باتجاه أبو ظبي ودمشق والقاهرة.
كان رد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان على شريك الأمس، أحمد داوود أوغلو، بعد أن اختار هو الآخر، أعداء الأمس، حزب الشعب الأتاتوركي المعارض، ليكون ضمن طاولته السداسية "تحالف الشعب" بمواجهة حزبه السابق والرئيس "لو عند أردوغان احترام لتحالفه، فليوقف العلاقات الخفية ويعلن تعيينهم نواب رئيس" ملمّحاً، بعد انطلاق الحملة الدعائية للانتخابات السبت الفائت والمستمرة حتى 13 مايو المقبل، إلى اقتصار تركيا على شركات محددة وتراجع المستوى المعيشي وعائدات تركيا.
فجاء الرد، أول من أمس الأحد، من بوابة الاقتصاد عبر افتتاح أول مصنع لإنتاج كربيد البورون في تركيا، بتكلفة استثمارية بلغت 80 مليون دولار، وتسريب أخبار عن قانون لإلغاء الفوائد المصرفية وإعادة جدولة الديون، ليس للمتضررين من زلزال فبراير الماضي فقط، بل ولكل من تأذى من موظفي الدولة.
إلى جانب أخبار عما يعتبره الأتراك، مفاجأة أردوغان الكبرى، بافتتاح المرحلة الأولى من مفاعل "آق قويو" النووي بولاية مرسين، والذي من شأنه إنتاج 4800 ميغا واط وتخفيف فاتورة الطاقة التركية البالغة 50 مليار دولار سنوياً بنحو 15%.
ولمحطة آق قويو ذات التكلفة الهائلة بنحو 20 مليار دولار، وقع خاص لدى الأتراك المنتظرين منذ عام 2010، زمن توقيع الاتفاق مع روسيا، تحوّل بلادهم لمصاف الكبار، خاصة إذا ترافقت، كما الأخبار المسربة ضمن حملة الحزب الحاكم، مع إرسال أول رائد فضاء تركي للقمر والإعلان عن إنتاج طائرة الشبح التركية "أنقا SOS3"، بالتوازي مع الانتخابات أو بعدها بقليل.
لكن السؤال اليوم، لماذا اختار اردوغان معمل "كربيد البورون" باكورة حملته، وماذا ينتج وماذا سيضيف.
وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، فاتح دونماز سبق افتتاح المعمل، عبر تغريدات تعريفية لمن يهمهم الأمر، بأن بلاده تمتلك حوالي 73% من احتياطيات معدن البورون في العالم.
واستخدامات هذا المعدن النادر، تتركز في قطاعات إستراتيجية كالصناعات الدفاعية والسيارات والفضاء والإلكترونيات والصناعات النووية. ممهداً لأردوغان ليكمل، عبر الإشارة إلى أن مصنع "باندرما" في ولاية باليكسير، سيكون مقدمة، ليتابع الرئيس فعلاً ويشرح أن المصنع هو الأول من نوعه في تركيا وأحد المصانع المعدودة في العالم في هذا المجال.
لكن تركيا لن تكتفي بمعمل واحد، بل تخطط لإنشاء مصنع مماثل في ولاية كوتاهية المجاورة بطاقة إنتاجية تصل إلى 5 آلاف طن.
ولأن تركيا، بحسب الرئيس والوزير، تمتلك جلّ احتياطي العالم من هذا المعدن النادر، أطرب أردوغان مشاهديه خلال الافتتاح بعزمه على تحويل 694 مليون طن من ثالث أصلب معدن "البورون" إلى منتج نهائي تصل نسبة الربح من القيم المضافة إلى 300 ضعف "قالها من الجوهر إلى المجوهر" ناهياً بحلمه المتجدد "عازمون بالارتقاء إلى مصاف العشرة الكبار".
قصارى القول: لا يمكن التقليل من أهمية المشاريع الكبرى والاستراتيجية، إن المعلنة كالبورون ومفاعل آق قويو ومفاجآت الصناعات الدفاعية، أو المؤجلة كوكالة الفضاء والرائد وقناة إسطنبول، بيد أن معيشة الأتراك هي المحرك، ربما الأهم، لاختيار مرشحهم الرئاسي و600 برلماني خلال، ربما أخطر انتخابات تشهدها تركيا بعصرها الحديث.
ما يعني، ماذا سيطبخ المواطن التركي خلال شهر رمضان، بعد تضخم بالأسعار تعدى 150% خلال عام، وتراجع قيمة أجره الذي زاد ثلاث مرات، جراء أكل التضخم قيمة العملة التركية التي هوت إلى نحو 19 ليرة مقابل الدولار، هو السؤال الأبرز على لائحة الناخبين، بعد السؤال عن مواجهة "كارثة العصر" التي حولت الولايات العشر الجنوبية إلى منكوبة وجل سكانيها إلى نازحين.
فالمشروعات الكبرى وحلم تركيا بالتحول للاعب وقطب عالمي، ربما لا تعني المستهلكين، بقدر ما تشغلهم مواجهة مصاريف شهر رمضان وما يليه من أعياد، قبل أن يرموا ببيوض أصواتهم بصندوق ناخب وحزب.
طبعاً، من دون أن نقع بفخ تسطيح عموم الأتراك وانشغالهم ببطونهم أكثر من مصير بلادهم، لأن الحس الوطني والاندفاع التركي، صفة شبه غالبة يعرفها من يتابعهم أو عايشهم.
نهاية القول: خمسون يوماً من المفاجآت اليومية المتوقعة، تنتظر تركيا، كل أبواب الاحتمالات فيها مشرّعة، ابتداء من حرب على العملة لزيادة الضغط على الناخب بمعيشته، وصولاً لتدخلات خارجية، مباشرة أو عبر أذرع وشركاء محليين، ما يحيل تركيا لساحة مواجهات، قد لا تقتصر أطرافها على المواطن والمرشح أو المرشحين الأربعة وأحزابهم.
وهو ما يجدد السؤال بجدوى "المشروعات الكبرى" وكيفية استمرار حكم "حزب العدالة والتنمية" وأردوغان بالسلطة، لتأسيس الجمهورية الثانية كما الحلم منذ عام 2002، أو بوصول "تحالف الأمة" ومرشحه، كمال كليجدار أوغلو، اللاهث منذ أمد للرئاسة لينسف ويبني من جديد، التحالفات وشكل عائدات الخزينة والنمط الاستهلاكي للأتراك.