على مدى 6 أشهر متتالية، وبوتيرة هي الأسرع في 30 شهرا، سجل الإنتاج الصناعي السعودي انكماشا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حسب آخر إحصاء أعلنته الهيئة العامة للإحصاء السعودية، ما أثار التساؤلات حول أسباب هذا التراجع، خاصة في ظل تزامنه مع إعلان وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، عن تأجيل بعض مشروعات خطة البلاد التنموية "السعودية 2030".
وعزت الهيئة انكماش الإنتاج الصناعي إلى "تراجع نشاط قطاع التعدين واستغلال المحاجر، الذي يشمل الصناعة النفطية"، مشيرة إلى أن "مؤشر الرقم القياسي لكميات الإنتاج الصناعي تراجع بمعدل 12.3% على أساس سنوي في أكتوبر/تشرين الأول، وهو أعلى معدل تراجع منذ إبريل/نيسان 2021، عندما انكمش الإنتاج الصناعي للمملكة بنسبة 24%"، وفق بيان أصدرته الهيئة في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
ويمثل نشاط التعدين واستغلال المحاجر قطاع "الصناعات الاستخراجية" في السعودية، وهو الأكبر في حساب الرقم القياسي للإنتاج الصناعي بالمملكة، حيث تبلغ أهميته النسبية 74.5%، بحسب بيان هيئة الإحصاء.
وجاء تسجيل نشاط التعدين واستغلال المحاجر انكماشا بنسبة 18.4% في أكتوبر/تشرين الأول، على خلفية الخفض الطوعي لإنتاج النفط الذي أقرته السعودية، والذي وصل معه إنتاجها اليومي إلى 8.9 ملايين برميل في الشهر ذاته، بحسب بيان هيئة الإحصاء.
وتتزامن هذه البيانات مع تسجيل الناتج المحلي الإجمالي للسعودية تراجعاً بنسبة 4.4% على أساس سنوي، خلال الربع الثالث للعام الجاري (2023)، مع تراجع الإنتاج النفطي للمملكة، ما يمثل تراجعا عاما بعديد المؤشرات الاقتصادية.
ويأتي هذا التراجع في وقت تركز فيه المملكة على تطور القطاع غير النفطي، في ظل مستهدفها لتنويع الاقتصاد وفق "رؤية 2030"، حسبما نقلت وكالة "رويترز" عن الجدعان، الذي توقع نمو القطاع بنسبة 6% بنهاية ديسمبر/كانون الأول الجاري، وأن يواصل الارتفاع خلال العام المقبل (2024).
الصناعات التحويلية
ويشير الخبير الاقتصادي السوداني، محمد الناير، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن انكماش القطاع الصناعي السعودي في الشهور الستة الماضية يتعلق بتعثر نمو الصناعات التحويلية تحديدا في المملكة وفق خطة 2030، والتي تضع اهتماما خاصا بهذا النوع من الصناعة، باعتباره مؤشرا إيجابيا على نمو حقيقي للقطاع الصناعي ككل.
ويوضح الناير أن القطاع الصناعي في السعودية لا يزال معتمدا بشكل أساسي على الصناعات الاستخراجية، أي الصناعات التي تعتمد على ثروات باطن الأرض وعلى رأسها النفط، مثل صناعة المشتقات البترولية، وبالتالي فإن مؤشرات أسعار النفط خلال الفترة الماضية كانت فاعلة في تباطؤ معدلات النمو بالنسبة للقطاع الصناعي السعودي أو حدوث انكماش به.
ويلفت الناير أيضا إلى ارتباط مؤشرات الأسعار باجتماعات تحالف "أوبك+"، التي تعمل على المحافظة على معدلات أسعار جيدة، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن السعودية يمكنها تجاوز الانكماش الصناعي إذا استطاعت أن تمضي قدما بصورة كبيرة في تنفيذ رؤية 2030 بشأن الصناعات التحويلية.
ولا يعني ذلك تجاهل الصناعات الاستخراجية في المملكة، بحسب الناير، بل أن تولي المملكة اهتماما أكبر بالصناعات التحويلية خلال المرحلة القادمة في إطار تنويع الموارد بدلا من الاعتماد بشكل رئيسي على إيرادات النفط.
غير أن الناير يشير، في هذا الصدد، إلى أن بعض المستجدات التي ظهرت على الساحة الاقتصادية "قد لا تمكن من تنفيذ خطة 2030 كما وضعتها السعودية"، وعلى رأسها تنظيم المملكة لمعرض إكسبو 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034، وكلاهما يحتاج إلى تعديلات بالإنفاق، قد تجرى على خطة 2030، كما يحتاج إلى إدخال كثير من المشروعات التي لم تكن مدرجة في الخطة وسحب البعض الآخر منها.
تحرير الاقتصاد
ويشير الخبير الاقتصادي المصري، مصطفى يوسف، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن تراجع قطاع التعدين والمحاجر بنسبة 18.4% في السعودية جاء تبعا لتقليل حكومة المملكة إنتاج النفط إلى 8.9 ملايين برميل يوميا، إذ ترتبط صناعات التعدين والمحاجر بحجم الإنتاج النفطي.
ويضيف يوسف أن ارتباط الصناعات في السعودية بالنفط وثيق، ما يعطي مؤشرا على ضرورة اتجاه اقتاد المملكة إلى الاعتماد على الصناعات غير المرتبطة بالنفط، خاصة الصناعات التحويلية، لا سيما قطاع التكنولوجيا.
ويصف يوسف انكماش الإنتاج الصناعي السعودي بأنه "ناقوس خطر" ينبه إلى ضرورة تنويع مصادر الاقتصاد السعودي كي ينمو بشكل إيجابي، لافتا إلى أن الاتجاه في المملكة نحو تقليل إنتاج النفط يهدف بالأساس إلى رفع الأسعار وتحقيق أكبر استفادة مالية، في ظل تأكيد عديد الدراسات والأوراق البحثية على أن التحول نحو مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة سيتم بنسبة كبيرة خلال سقف زمني من 10 إلى 20 عاما.
وبعد تخطي هذا السقف الزمني، من المتوقع أن تشهد أسعار النفط تدهورا كبيرا، وبالتالي فإن أي اعتماد على النفط سيكون رهانا خاسرا بحلول عام 2040 على أقصى تقدير، إذ ستحتل الطاقات البديلة، مثل طاقة الرياح أو الهيدروجين الأخضر، نحو 50% من استهلاك الطاقة العام حول العالم.
ولذا فالتحدي الكبير أمام الاقتصاد السعودي خلال العقدين القادمين هو "تحريره" من هيمنة الصناعات النفطية والتركيز على الصناعات التحويلية وأنواع الصناعات الأخرى، وهو ما اتجهت إليه دول خليجية أخرى، منها سلطنة عمان.
وكان بيان هيئة الإحصاء السعودية قد أورد أن نشاط الصناعات التحويلية هو ثاني أكبر الأنشطة في حساب الرقم القياسي للإنتاج الصناعي في المملكة، بنسبة 22.6%، وقد سجل تباطؤا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأدنى معدل نمو سنوي منذ يوليو/تموز 2021، عند 0.6%، وذلك مقارنة مع نمو بـ6.7% في سبتمبر/أيلول الماضي.
أما النشاط الثالث في المملكة فهو إمدادات الكهرباء والغاز، ويمثل 2.9% من الرقم القياسي للإنتاج الصناعي السعودي، ونما بنسبة 32.2% على أساس سنوي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
يشار إلى أن صندوق النقد الدولي توقع نمو الاقتصاد السعودي 0.8% في عام 2023، مقابل توقعاته في يوليو/تموز الماضي عند 1.9%، وأرجع ذلك إلى خفض إنتاج النفط ضمن اتفاق تحالف "أوبك+".