بين "هرج ومرج" اندفعت أمينة بين الفارين من ظلام دامس أطبق فجأة على عمارة الأطباء الشهيرة وسط القاهرة، حاملة طفلها حديث الولادة، تدفع باب عيادة الطبيب باحثة عن الأمان. وجدت الشابة جمعا من المرضي يضيئون عيادة الطبيب المشهور بهواتفهم المحمولة، أملا في عودة سريعة للتيار الكهربائي. تصبب الجميع عرقا وبدأت صرخات الأطفال، مع شدة الحرارة وقلة التهوية، حيث العقارات التجارية حديثة وبُنيت منخفضة الأسقف من دون نوافذ تهوية، معتمدة على أجهزة التكييف.
لم تهدأ مخاوف أمينة، التي خشيت بداية من ركوب المصعد، بعد أن سمعت استغاثة من داخله، وظل الجميع في حيرة من أمرهم نحو ربع الساعة. ما إن اطمأن الجمع إلى إنقاذ المرضى المحجوزين داخل المصعد، حتى بدأ التذمر مع اتصال الطبيب على هاتف سكرتيرته قائلا إنه سيلزم سيارته في الشارع ريثما يعود التيار.
ودفعت صرخات الأطفال أمينة وأمثالها إلى الخروج، سائرة على أضواء الهاتف، باحثة عن مكان تجلس لحين عودة الكهرباء وصعود الطبيب لمرضاه. فضلت السيدة أحد المقاهي السياحية، الواقعة على مسافة أمتار من مقر البرلمان ومبني وزارة الداخلية القديم، وملاصقة لمبنى الجامعة الأميركية في شارع محمد محمود المؤدي إلى ميدان التحرير الشهير.
أظهرت أمينة حرصها على اختيار مكان مكيف الهواء، ترتاح فيه لبضع دقائق، لتحمي رضيعها من حر الصيف رغم الزيادة الهائلة في التكاليف. وبعد دقائق من تناولها زجاجة المياه الباردة، انطفأت الأنوار، وتحول الشارع إلى بؤرة شديدة الظلام. استعان الموظفون بهواتفهم، لإضاءة المقهى الفاخر. وأشعل شباب في الطاولة المجاورة شمعة وأضواء هواتفهم لاستكمال اجتماع بدأوه بمكتبهم المجاور للمقهى، وحرصوا على إتمامه مهما كانت الظروف.
يُبدي بعضهم تذمرا من كثرة انقطاع التيار الكهربائي التي أفسدت أعمالهم، بينما يختنق طفل أمينة من قلة الهواء وارتفاع درجات الحرارة، يحاول الموظفون تهدئة الجلوس بأن الكهرباء ستعود، في أقرب من ساعة.
أصاب منطقة وسط البلد، بما فيها من مشروعات تجارية ومكاتب 20 وزارة والبرلمان ومؤسسات دولية وسفارات، ما أصاب غيرها من كارثة انقطاع التيار الكهربائي. حيث يؤكد موظفو مقهى سياحي أن الأمر تكرر كثيرا بالآونة الأخيرة، ما يدفعهم إلى تأجير مولدات كهرباء، والتفكير في شراء مولدات خاصة إذا ما استمر الحال على ما هو عليه خلال الفترة المقبلة.
تنتبه أمينة إلى صيحات الشباب أثناء مناقشة أعمالهم، فتتذكر أحد الفيديوهات التي انتشرت بين وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، تحمل كلمات ثائرة من شاب يصرخ من تكرار انقطاع الكهرباء عن منزله.
يطالب الشاب قيادات الدولة بـ"الكف عن العبث" بالكهرباء الذي يؤدي إلى انقطاعها ولا يحرمه من وصول المياه أو تشغيل مراوح الهواء فقط، بل يهدد فرصته الوحيدة بالعمل عبر الإنترنت، وهو يطلب إغاثته لأنه سيفقد وظيفته التي حصل عليها بمشقة مع شركات دولية يعمل معها من المنزل، مؤكدا أن فقدان عمله سيدمر حياته، في وقت يستحيل فيه وجود فرصة عمل بالسوق المحلية.
تعود الكهرباء تدريجاً، وتضطر أمينة لدفع 100 جنيه مقابل كوب ماء ومشروب، لكنها لم تهنأ به، فتسرع إلى عيادة الطبيب، وسط تكدس الباعة حول محالهم، خوفا من انفلات أمني مفاجئ أو تعرضهم لسرقة أملاكهم. وتراكمت أعداد المرضى، ما أخر أمينة ساعتين عن موعدها، فظلت تنظر من شباك السيارة إلى المناطق المظلمة بكثرة على جوانب الطرق، وسط مدينتي القاهرة والجيرة، فتدرك أن التجمع السكني الذي تعيش به أقل من غيره من تلك المناطق بكثير.
تابعت أمينة شكاوى كثيرين من انقطاع متعدد الأوقات والساعات، يأتي فجأة ومن دون إنذار، بخلاف ما تذكره الحكومة من كلمات في وسائل الإعلام المحلية، بينما يتكرر الانقطاع عندها ما بين مرة أو مرتين. ما أن تعود أمينة إلى بيتها، حتى ترى السواد الحالك محيطا بالتجمع السكني، وغيره من التجمعات التي يسكنها قادة عسكريون وضباط شرطة. يتحايل السكان على الظلام باستخدام أنوار السيارات في إنارة الشوارع، ومساعدة السكان على دخول مساكنهم بإنارة الهواتف المحمولة.
تحرص أمينة على متابعة اجتماع مجلس الوزراء، نهاية الأسبوع الماضي، بشر قبله المواطنين بقرب انتهاء الأزمة التي تؤرق الجميع، فتعطل العمل بالورش والمصانع والمحال التجارية ولم تترك بيتا أو نشاطا وإلا أفسدت عليه أمره وكلفته من الخسائر الكثير. جاءت كلمات رئيس الوزراء لتزيد الطين بلة، فبدلا من الاعتراف بأخطاء الحكومة في إدارة أزمة الكهرباء، ليحدد كيف ستخرج منها مسرعة، فإذا به يلقي باللائمة على الظروف المناخية التي رفعت الحرارة فجأة، ويحمل المواطنين الزيادة في الاستهلاك.
كشفت كلمات رئيس الوزراء عن استمرار الأزمة، لأسابيع وربما لأشهر قادمة، تمتد إلى نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل. تظهر كلمات رئيس الوزراء تباينا في الرؤى بين الحكومة والخبراء، واستفحال أزمة مالية، وشحا كبيرا في الغاز والمازوت يرجع إلى ندرة الدولار، وعدم قدرة المشروعات الحكومية على توليد الدولار.
كشفت كلمات رئيس الوزراء عن استمرار الأزمة، لأسابيع وربما لأشهر قادمة، تمتد إلى نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل
أظهر مدبولي تناقضا هائلا في تصريحاته، بعد اجتماع مجلس الوزراء في مكتبه الجديد بمدينة العلمين الساحلية، مع ما صدر قبلها بساعات من بيانات خرجت من مكتبه الأكثر حداثة بالعاصمة الجديدة. أوضح بيان مدبولي أن محطات إنتاج الكهرباء تحتاج إلى زيادة ضخ الغاز لمواجهة زيادة استهلاك المواطنين التي ارتفعت إلى نحو 35 ألف ميجا وات على مدار الأيام الماضية. توقع بيان مدبولي أن تستمر حملات خفض الأحمال إلى منتصف أغسطس، على أن تنتهي الأزمة في أنحاء الجمهورية مع ذاك التوقيت، معتبرا أن المشكلة عارضة ومؤقتة، لن تتكرر مرة أخرى.
قال مدبولي في تصريح متلفز من مقر الحكومة الصيفي إن "مشكلة انقطاع الكهرباء ليست نقصا في احتياطي الغاز، أو عدم كفاء مشروعات الكهرباء العملاقة التي أنشأناها خلال السنوات الماضية، والتي من دونها ستصل الكهرباء إلى المنازل لبضع ساعات يومياً فقط" مشيرا إلى أن المشكلة تعود إلى الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، التي بدأت موجاتها تتزايد منذ 17 يوليو/تموز الجاري.
يقفز مدبولي على الأسباب الكارثية التي صنعتها الحكومة وتقف وراء انقطاعات الكهرباء، غافلا عما قاله قبل الاجتماع عن أن آبار الغاز تنتج 110 ملايين متر مكعب فقط يوميا، بينما ذكر بعد الاجتماع "أن وقت الذروة لمحطات التوليد يحتاج إلى 129 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي والمازوت لتوليد 34 ألف ميغاوات، ستوفر من مستودعات وزارة البترول أو التابعة لمحطات الكهرباء، في حدود من 144 مليونا إلى 146 مليون وحدة حرارية يوميا، ومع وجود احتياج يصل إلى 165 مليون وحدة، لمواجهة زيادة استهلاك المواطنين للكهرباء والغاز الطبيعي، بما يستدعي مواصلة تخفيف الأحمال لحين انتهاء الموجة الحارة.
وقت الذروة لمحطات التوليد يحتاج إلى 129 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي والمازوت، لتوليد 34 ألف ميغاوات
فسر مدبولي عدم وجود مازوت إلى وقف الحكومة استيراده منذ إبريل/نيسان الماضي للحد من التلوث، مرجعا زيادة استهلاك الوقود إلى حاجة توربينات التوليد إلى زيادة الوقود كلما ارتفعت درجات الحرارة لتحافظ على كفاءتها الفنية.
قرر مدبولي منح موظفي الحكومة فرصة العمل من المنزل اعتبارا من الأحد المقبل 6 أغسطس، عدا المتعاملين مع الجمهور، وأن تكون المباريات الرياضية، بالأندية والمنشآت الرياضية، نهارا قبل حلول الظلام، وأن يقتصر قطع الكهرباء لمدة ساعة أو ساعتين على الأكثر خلال اليوم الواحد، عندما تتجاوز الحرارة 35 درجة، بما يعني أنها ستزيد عن ذلك، حيث يبلغ متوسط الحرارة خلال أغسطس/آب ما بين 42 و38 درجة مئوية، وتبدأ في الانخفاض في سبتمبر/أيلول إلى 36 درجة.
وعد مدبولي بأن تعلن شركات الكهرباء المواعيد المحددة لقطع الكهرباء عن كل منطقة سكنية، بحد أقصى يوم الاثنين، واستيراد شحنات إضافية من المازوت بتكلفة تقدر بنحو 250 مليون إلى 300 مليون دولار، لمواجهة أزمة الكهرباء.
استبق" مدبولي" اجتماع مجلس الوزراء لـ"حسم أزمة الكهرباء" ببشائر حول وضعه حلولا نهائية للقضاء على الازمة، فإذا به يختار "العلمين" المكان الخطأ، وأطروحات تزيد الكارثة غموضا، وتربك المواطنين.
أحالت وزارة الكهرباء 25% من قدرات التوليد المركبة بالشبكة الموحدة إلى التقاعد
كما وعد بتوفير التمويل الأزم لاستيراد المازوت لتشغيل محطات التوليد البخارية، في تراجع عن "الاقتصاد الأخضر" يراه خبراء الطاقة مدمرا لمحطات التوليد، التي تحولت 90% منها للعمل بالغاز الطبيعي، بعد أن أحالت وزارة الكهرباء 25% من قدرات التوليد المركبة بالشبكة الموحدة إلى التقاعد، وبيع بعض وحداتها "خردة" أو قطع غيار للمحطات القائمة.
فجرت كلمات رئيس الوزراء حول عدم قدرته على قطع الكهرباء عن المناطق الساحلية، مثل العلمين ومدن الساحل الشمالي، خوفا على حركة السياحة، حملة سخرية واسعة بين قيادات الغرف السياحية، الذي تعجبوا من قطع التيار عن مدينة الأقصر جنوبي البلاد، والغردقة وشرم الشيخ شرقا، وغيرها من المدن التي ينتشر فيها السائحون وقائمة على خدمة الحركة السياحية، وإغلاق آلاف المساجد لعدم وجود كهرباء، بينما يحرص مدبولي على توفير الكهرباء للأثرياء، حتى لا ينزعجوا مثل باقي أفراد الشعب.
وأكد أن تلك المناطق تمثل دخلا قوميا للدولة. عبّر خبراء السياحة، عن أسفهم لما يتعرض له السائحون من مضايقات في المطارات والمناطق السياحية، ويأتي انقطاع التيار ليزيد مشاكلهم عند دخول المتاحف والمناطق الأثرية، التي تحول نظام بيع التذاكر فيها إلى "رقمي" باستخدام بطاقات الدفع الإلكتروني.
يدعو مواطنون الحكومة للرحمة بهم، بعد أن تعدى انقطاع الكهرباء 7 مرات يوميا، بما يتلف الأدوات الكهربائية، ويهدد حياتهم في حالة اشتعال أحد الأجهزة، مع عودة الكهرباء بجهود مرتفعة فجأة، مع عدم وجود أفق زمني لمواجهة الأزمة.
تعرض مركز تجاري بمدينة مرسى مطروح لحريق ضخم، الخميس الماضي، كاد يقتل 30 شخصا، مع تكرار انقطاع التيار الكهربائي. تتكرر الحرائق داخل المنازل والمحال، من دون أن ينتبه المسؤولون إلى استفحالها ومخاطرها.
تراجع إنتاج الغاز أفقد مصر نحو 9 مليارات دولار، وأدى إلى وضع الحكومة في مأزق صعب
طلب محمد أبو الغار، مؤسس حزب المصري الديمقراطي، من قيادة الدولة أن تعلن أنها أخطأت بعد أن أدت سياساتها إلى السير بخطوات سريعة لتفكك الدولة وانهيارها، مبينا أن انقطاع الكهرباء كان أمرا متوقعا ومعروفا، حين اتخذ قرار تصدير الغاز اللازم لتشغيل المحطات مقابل دولارات لدفع فوائد الديون، بعد اتباع سياسة كارثية في استيراد محطات التوليد، من دون الحاجة إلى نصفها، مقابل قروض من البنوك الألمانية، من دون إجراء دراسات جدوى.
بينت جريدة "الأهالي" الصادرة عن حزب التجمع اليساري، الداعم للنظام، أن أزمة الطاقة ونقص إمدادات الغاز الطبيعي لمحطات الكهرباء على مدار الأيام الماضية أدت إلى تداعيات سلبية على الاقتصاد، مشيرة إلى وجود تعهدات حكومية بسداد مستحقات مالية تزيد عن 18.6 مليار دولار خلال الأشهر المقبلة. بينت الجريدة أن تراجع إنتاج الغاز أفقد مصر نحو 9 مليارات دولار، وأدى إلى وضع الحكومة في مأزق صعب، حيث أصبحت مطالبة بتوفير الدولار من البنوك العامة.
أظهرت الجريدة أن موارد الغاز استنزفت في التصدير إلى الخارج، مشيرة إلى تقارير مؤسسات دولية تظهر التراجع في إنتاج الغاز لأسباب تقنية وفنية، استفحلت بتأخر الحكومة في سداد مستحقات الشركاء الأجانب والموردين، مع وجود أزمة دولار تدفع الحكومة إلى مزيد من الاقتراض وبيع الأصول العامة لتمويل المشتريات الحكومية من الوقود والسلع الأساسية.
فجرت أزمة الكهرباء عيون "أمينة" وأخواتها على ما هو أفدح وأهم، حيث بدأ الناس يتساءلون عن أسباب حرص النظام على إقامة محطات توليد فاقت قدراتها 62 ألف ميغاوات، بينما الاستهلاك لم يزد عن 35 ألف ميغاوات، بتكلفة بلغت 515 مليار دولار، وديون أجنبية فاقت 34 مليار دولار، فلماذا إذن أنفقت هذه الأموال إذا لم يكن الهدف منها توفير كهرباء تحافظ على أمن الأسر وأمان التجار والسائحين.