يتسرب النفط الروسي إلى الأسواق العالمية، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، التي فرضت عقوبات واسعة شملت حظر النفط الخام والمنتجات المكررة المنقولة بحراً وفرض سقف على أسعارها، إذ تظهر بيانات تتبّع صفقات النفط ثقوباً كبيرة في جدران الحظر، ما يتيح لموسكو الوصول إلى المشترين، سواء عبر "أسطول الظل" الذي تعتمد عليه موسكو في تجاوز العقوبات من خلال عدد ضخم من الناقلات، أو "الأبواب الخلفية" وهي أسواق الترانزيت.
ودخلت، اعتباراً من أمس الأحد، حيز التنفيذ، حزمةُ عقوبات أوروبية تستهدف حظر مشتقات الوقود الروسي (البنزين بأنواعه والديزل) المنقولة بحراً، لتأتي بعد يومين من موافقة دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا على فرض سقف بواقع 100 دولار للبرميل لمبيعات الديزل الروسي إلى دول ثالثة.
وتأتي هذه القيود استكمالاً لسلسلة من العقوبات التي طاولت صادرات النفط الخام الروسي والغاز الطبيعي، في محاولة للحد من عائدات روسيا رداً على غزوها أوكرانيا. لكن ثمة ثقوب في إجراءات الحظر، وفق محللين في قطاع الطاقة، مع إقرارهم بأن العقوبات تتسبب في متاعب للروس والأوروبيين على حد سواء، بينما ثمة رابحون من هذا الوضع الذي لا تلوح في الأفق نهاية قريبة له.
وروسيا منتج كبير للنفط الخام بمتوسط إنتاج يومي 11 مليون برميل، ومصدّر رئيسي بمتوسط يومي 5 ملايين برميل في الظروف الطبيعية. كما كانت موسكو تزود أوروبا بأكثر من 720 ألف برميل يومياً من الديزل، وتجاوز الرقم حاجز المليون برميل قبل الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022. وعلى مدى عقود، كانت تدفقات ناقلات الوقود تتنقل ذهاباً وإياباً بين مجموعة صغيرة من الموانئ في شمال غرب أوروبا وبحر البلطيق.
وبحسب عملاقة تجارة السلع الأولية "ترافيغورا"، ارتفع عدد ناقلات النفط الروسي حول العالم التي تُعرف باسم "أسطول الظل" إلى ما يقرب من 600 ناقلة، في مؤشر على إصرار الروس على تجاوز العقوبات المتواصلة ضد مواردها الحيوية.
قال بن لوكوك، الرئيس المشارك لإدارة تداول النفط لدى "ترافيغورا"، في مقابلة مع تلفزيون بلومبيرغ: "بالعودة إلى زمن العقوبات الماضي على كل من إيران وفنزويلا، كان هناك أسطول متخف صغير نسبياً بإمكانه التعامل مع النفط الخاضع للعقوبات، لكنّ الوضع مختلف تماماً مع النفط الروسي، فهو هائل الحجم".
وتبدو الدول الأوروبية نفسها حريصة على بقاء ثقوب في الحظر، إذ تظهر بيانات تتبّع صفقات النفط، أنه منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، كثفت شركات الطاقة الأوروبية، توريد مشتقات الوقود من روسيا، قبيل دخول قرار حظر المشتقات النفطية المنقولة بحراً حيز التنفيذ، وإلى حين توفير بدائل عن الوقود الروسي.
ورغم أن ذلك الحظر سيسبب في البداية بعض القلق، لكن جرى تصميم القواعد الجديدة بما يسمح أيضاً باختراقها، وفق محللين، لتخفيف الألم لكلا الجانبين. ومن المحتمل أن يكون أكبر الفائزين هم التجار وشركات الشحن، إذ يبدو أن الوقود سيستمر في التدفق، فقط عبر طرق ملتوية أكثر تعقيداً.
وقال داريو سكافاردي، الذي كان يدير حتى العام الماضي واحدة من أكبر مصافي النفط في أوروبا، كرئيس تنفيذي لشركة "ساراس سبا" الإيطالية، سيجد النظام توازنه عاجلاً أم آجلاً "مقابل تكلفة على الجميع بالطبع... لا أعتقد بحدوث أي أزمة كبيرة".
وكانت أوروبا تخزن الوقود بشكل عاجل في الأشهر الأخيرة، حيث بلغت الشحنات إلى الاتحاد الأوروبي أعلى مستوياتها منذ بداية عام 2016 على الأقل، في الربع الأخير من 2022. كما ظل عدد الناقلات الوافدة أعلى بكثير من المعدل الطبيعي حتى بداية فبراير/شباط الجاري.
وبالإضافة إلى تسرّب الناقلات التي تنقل المنتجات النفطية الروسية إلى أوروبا، هناك العديد من الطرق القانونية للالتفاف على الحظر الذي سيحافظ على تدفق الصادرات الروسية والواردات الأوروبية، حتى لو توقفت التجارة المباشرة. ومن المرجح أن تتم معالجة الخام الروسي في دول مثل الهند ثم يرسَل إلى أوروبا كديزل غير روسي.
قال رئيس المنتجات المكررة في شركة "فاكتس غلوبال إنيرجي" المتخصصة في استشارات الطاقة، يوجين ليندل: "لا نتوقع أن تجف أوروبا... هناك كميات كافية حولها". كما يبدو أن روسيا لا تتوقع الكثير من الاضطراب في الوقت الحالي. وتخطط لتصدير حوالي 730 ألف برميل يومياً من الديزل من الموانئ الغربية الرئيسية هذا الشهر، وفقاً لـ"بلومبيرغ" التي ذكرت أن ذلك سيكون أكبر تدفق منذ بداية عام 2020 على الأقل.
في السياق، نقلت وكالة تاس الروسية، مساء الجمعة، عن وزير الطاقة الروسي نيقولاي شولغينوف، أنه لا يرى أي سبب لخفض حاد في عمليات تكرير النفط وإنتاج الوقود عندما تبدأ إجراءات الاتحاد الأوروبي.
ويعتمد موقف روسيا، جزئياً، على مدى قدرتها على الدخول في أسواق جديدة. على سبيل المثال، سيجعل الدول تشتري الديزل الروسي ثم تعيد توجيهه نحو أوروبا. وقد يكون هذا جذاباً للتجار الذين يمكنهم شراء البضائع الروسية الرخيصة وبيعها في الاتحاد الأوروبي بسعر مرتفع.
وتلعب الهند دوراً متزايداً في أسواق النفط العالمية، حيث تشتري المزيد من النفط الروسي الرخيص وتكرره لتحويله إلى وقود لأوروبا والولايات المتحدة أيضاً. فقد شحنت الهند حوالى 89 ألف برميل يومياً من البنزين والديزل إلى نيويورك في يناير/كانون الثاني الماضي، وهو الأكبر في ما يقرب من أربع سنوات، وفقاً لبيانات شركة "كيبلر" التي تتتبع مبيعات النفط عالمياً.
كما بلغت التدفقات اليومية للديزل منخفض الكبريت إلى أوروبا 172 ألف برميل الشهر الماضي، وهي أكبر كمية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وعلى الرغم من توجه أوروبا نحو دول الخليج العربي لشراء المزيد من منتجات النفط، إلا أن طاقات التكرير قد لا تكون قادرة على تلبية الطلب الأوروبي، بسبب التأخير في تشغيل بعض المصافي الجديدة، وفق تقرير لنشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة.
وعزز كبار منتجي منظمة أوبك أو تعهدوا بزيادة صادراتهم من المنتجات المكررة إلى أوروبا، إذ تخطط الكويت، على سبيل المثال، لزيادة صادراتها من الديزل إلى أوروبا خمسة أضعاف هذا العام، إلى حوالي 50 ألف برميل يومياً، حسبما قال مصدر مطلع على الأمر لبلومبيرغ. كذلك، تتوقع الدولة مضاعفة مبيعات وقود الطائرات إلى أوروبا خلال 2023 إلى ما يقرب من 5 ملايين طن.
كما أن مصافي جازان السعودية والدقم في سلطنة عُمان في مرحلة تكثيف، ويتوقع المحللون أنهما يمكن أن يكونا قادرين على سد بعض فجوات الديزل والوقود الأخرى في أوروبا، لكن ذلك سيكون في نهاية 2023 على أقرب تقدير. وتبدو روسيا مستفيدة من كسب الوقت في حرب خنق الموارد، فضلاً عن عملها على توسيع نطاق أسواقها.
فقد استوردت تركيا كمية قياسية من الديزل الروسي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بناءً على بيانات شركة "فورتيكسا" للتحليلات النفطية. كما قفزت صادرات أنقرة الإجمالية من هذه المادة إلى مستوى قياسي الشهر الماضي، وهذه التجارة قانونية، ويبدو أنها طريقة محتملة لتخفيف تأثير الحظر الغربي على موسكو.
وبالمثل، قفزت واردات المغرب الشهر الماضي بزيادة كبيرة من روسيا. وكلما حدث ذلك، زاد عدد التجار الذين يمكنهم تحويل البضائع من الموردين التقليديين نحو أوروبا. وستساعد مثل هذه الحلول على إعادة خلط التدفقات بشكل أساسي بدلاً من تقليصها بشكل كبير.
وقالت المحللة الرئيسية في شركة "فورتيكسا"، سيرينا هوانغ، إن مجموعة الدول السبع حريصة على خفض إيرادات موسكو قدر الإمكان، لكن لديها أيضاً مصلحة في ضمان استمرار تدفق النفط والمنتجات المكررة الروسية، لتجنب أزمة الإمدادات العالمية.
وبدلاً من إعاقة الصادرات، جرى تصميم السقف المرتفع لسعر الديزل الروسي الذي فرضته مجموعة السبع والاتحاد الأوربي وأستراليا عند 100 دولار للبرميل، للسماح بوصول التدفقات الروسية إلى الأسواق. والأسبوع الماضي، جرى تداول الديزل الروسي عند نحو 90 دولاراً للبرميل.