مع تواصل جرائم الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، بما فيها الحرب على غزة، اتخذت الشعوب العربية، موقفاً جمعياً للتضامن، ما بين ذلك التظاهرات، وجمع المساعدات الإغاثية، وحملة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والأميركية، كما امتدّت المقاطعة لسلع وخدمات دول أوروبية.
وبهذا المعنى فهناك مقاطعة مباشرة للمنتج الإسرائيلي، وأخرى غير مباشرة لداعمي الاحتلال، من دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بريطانيا وفرنسا، ولم تكن مواقف متفاوتة لهذه الدول من انحياز ودفاع ودعم لإسرائيل مفاجئة، بحكم الارتباط التاريخي وشبكة المصالح المشتركة، وهو ما انعكس في تصريحاتها، ومواقف في هيئات الأمم المتحدة، ومنها مجلس الأمن.
وبهذا التحديد الدقيق لدعاوي المقاطعة، فإن الشعوب العربية تضع الصراع مع الاحتلال في سياقه، وترفض منظور التجزئة، والفصل بين إسرائيل ومسانديها، وتعيد التذكير بأنّ دول الاحتلال قائمة ومستمرة في إجرامها بمساندة ودعم أميركي وأوروبي. لذا تأتي المقاطعة ردّاً على مواقف هذه الدول ومؤسساتها الاقتصادية، التي تعتبر الأسواق العربية مجالاً لتصريف جزء من منتجاتها.
ليست هذه المرة الأولى التي تتخذ فيها الشعوب موقفاً بالمقاطعة، لكن الأصداء والمضامين والسمات لمشهد المقاطعة الذي يتسع مختلفة نسبياً، عن محطات سابقة، تتزامن مع خمس حروب على غزة منذ عام 2008.
وبمنظور مقارن، ربما حملة المقاطعة اليوم، أقرب إلى محطة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية بداية الألفية الثالثة، لكنها تفوقها من حيث الاتساع والانتشار، وتترك تأثيرات عدة بجانب الأبعاد الاقتصادية المباشرة، وغير المباشرة المحتملة مستقبلاً.
مصرياً، ساهمت في صياغة حركة المقاطعة قبل عقدين لجان ومؤسسات حزبية ونقابية، وبرزت اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، بمشاركة القوى السياسة والنقابية، وأقامت اللجنة فاعليات ضمنها مئات المؤتمرات في المدن الكبرى، واتسع نطاق جمع المساعدات وامتد إلى الجامعات والقرى. لكن اليوم ولظروف التضييق على حرية التعبير والتنظيم بجانب ضعف الهياكل التنظيمية سياسياً ونقابياً، لم تتخذ المقاطعة بشكل واضح طابعاً مؤسسياً، ورغم ذلك فهي أكثر اتساعاً.
من حيث الأدوات، اتخذت المقاطعة من تطور وسائل الاتصال الاجتماعي، أداة للتعبئة والحشد، لتجاوز عوائق السلطوية حيث تمنع تقريباً إقامة المؤتمرات الجماهيرية، أو توزيع البوسترات الدعائية والتضامنية.
وبديلاً عن ذلك، ظهر إبداع متنوّع، بما في ذلك استخدام المقاطع المصوّرة للدعوة للمقاطعة، وبيان فوائدها وآثارها، والتذكير بأن شراء بضائع إسرائيل وداعميها يعني مشاركة في العدوان.
وبين سمات ومضامين المقاطعة هناك تحديد دقيق لمن نقاطع، ورفض الفصل الساذج ما بين الاقتصاد والسياسة، الذي يسوقه الانهزاميون ومجموعات المصالح، وهؤلاء أيضاً جزء منهم روّج للتطبيع، ومشروعات الشرق الأوسط بدعاوى الواقعية، وتحقيق فوائد تنموية، وليست بعيدة عنا الدعاية لاتفاقيات التطبيع "الإبراهيمية" .
كذلك تتخذ المقاطعة طابعاً شعبياً، وديمقراطياً، ولا مبالغة في القول إنها استفتاء ومختبر لتأييد حقوق الشعب الفلسطيني، ومساندة لسكان غزة المنكوبين، حيث ينخرط الجمهور كمستهلكين في المقاطعة بأسلوب بسيط ممكن، ولا يقومون وحسب باختيار استهلاكي، لكنهم أيضاً يرسّخون فكرة الخيارات والبدائل، ويناقشون أيضاً علاقات الإنتاج والاستهلاك.
ولكون المقاطعة اختياراً متكرراً، وفعلاً واعياً متكرّر الحدوث، يمكن القول إنها ظاهرة، وبين مضامينها أنها شكل من المقاومة الاقتصادية، وعامل إسناد واصطفاف مع الشعب الفلسطيني في صموده البطولي وإيماناً بعدالة قضيته. وبين عوامل قوتها أنّها فعل ممكن ويحمل إشارات لكل الأطراف، سواء العربية الرسمية أو القوى السياسة.
والمقاطعة في أحد مضامينها مقاومة للميل الاستهلاكي وتحكم فيه، وتحمل وترسخ لفكرة الخيارات المتعددة والبدائل، وتمثل عملاً شعبياً، وتحدياً لصور العجز، بما فيها خفوت، وربما انتهاء عملياً، المقاطعة الرسمية التي اتخذت بقرار من جامعة الدول العربية عام 1951، وجرت الدعوة لتجديدها وإحياء مكاتب المقاطعة مع الانتفاضة الأولى والثانية، لكن عملياً، ورغم بقاء هياكل مكاتب المقاطعة في بعض الدولة، لم تعد ذات أثر وازن مع موجات التطبيع.
وتعد المقاطعة أيضاً أحد أشكال مناهضة دولة الاحتلال المرتبطة بمشروع الهيمنة الرأسمالية ووليدته انتقالاً من بريطانيا إلى رعاية أميركية كاملة، خاصة بعد اتفاق التعاون الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي 1983، إضافة إلى دعم أوروبي لم ينقطع تاريخياً، وظهر في حرب غزة بشكل كاشف عن وحدة عضوية بين إسرائيل وداعميها.
ورغم وضوح أهداف المقاطعة وتأثيراتها، فهناك من يقلل من أهميتها، بما فيها أصوات تدعي مساندتها للقضية الفلسطينية، لكنها تحذر من نتائج سلبية للمقاطعة على العمالة والإنتاج، إلا أن ذلك مردود عليه، فالسوق ليس مرهوناً بالهيمنة الأميركية والأوروبية، على الأقل في كثير من السلع التي لها بدائل، ويمكن أن تدعم المقاطعة فرص الإنتاج المحلي، وتوسيع أعمال شركات مصرية شهدت منتجاتها إقبالاً ملحوظاً كبديل لسلع أميركية وأوروبية.
ويمكن أن تساهم المقاطعة في تعديل بعض أنماط الاستهلاك، خاصة أنه من السهولة الاستغناء عن منتجات مستوردة من الأغذية والمشروبات وأدوات التجميل والمنسوجات وغيرها، وتوفير بعض النقد الأجنبي.
وبطبيعة الحال، ليست المقاطعة حلاً سحرياً لمعضلة الإنتاج المرتبطة بنمط التنمية ككل، ولكنها فرصة مهمة. هناك تحديات تتعلّق بإنتاج معدات ووسائل التكنولوجيا، وهي ضمن مشكلات طرحت للنقاش ضمن المقاطعة، وتتماس مع مشكلة تخلف البنى الصناعية في معظم الأقطار العربية، بجانب استيراد المواد الخام وغيرها من مستلزمات الإنتاج.
وإلى جانب مقاطعة مصرية وعربية، هناك تحركات عالمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وبين أمثلة على ذلك، إعلان جماعة تسمي نفسها اليهودية التوراتية مقاطعة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، والتأكيد أن الصهيونية ليست اليهودية وغيرها من تحركات ومواقف مشابهة، كما حركات مقاطعة منتجات إسرائيل،
والمستوطنات بشكل خاص، وحركة المقاطعة الدولية BDS التي بدأت عملها منذ عام 2005 وتوسّعت عالمياً، مستهدفة مقاطعة أشمل من الاستهلاك، بما أزعج إسرائيل وحلفاءها الذين حاولوا التضييق عليها بدعوى معاداة السامية، وهذا ما يؤكد المضامين السياسية للمقاطعة وقدراتها على صياغة موقف من دولة الاحتلال ونشره عالمياً.
تبدو المقاطعة هذه المرة أكثر قوة، والصمود الفلسطيني يعيد طرح الأسئلة والقضايا الرئيسية عربياً، بما فيها الوضع الاقتصادي، ونمط الإنتاج ومعايير الاستهلاك، وطرح أسئلة عميقة حول تطوير البنى الصناعية وتوفير مستلزمات الإنتاج.
وبذلك فهي تتجاوز مقولات المنهزمين من مدعي الحكمة الذين يثبتون البوصلة على أشكال المقاومة كافة للهيمنة الأميركية والتي تعد إسرائيل إحدى ركائزها في الشرق الأوسط.
أخير، سنجد الهجوم على حملات المقاطعة في المستقبل مكثفاً، مصادره رؤوس أموال وفئات رأسمالية منخرطة في مشروعات الهيمنة وجزء منها.
ومهما تحدث ممثلوهم، من اقتصاديين وإعلامين وتجار، بمسحة من عقلانية أحياناً، أو اعتبروا المقاطعة عملاً فوضوياً ضاراً، فإنهم لا يقصدون إيجاد البدائل، وتطوير الإنتاج المحلي كأولوية مكملة للمقاطعة، وإنما يستهدفون في هذه اللحظة، هدم العزائم وبقاء الوضع ساكناً، لأنهم ببساطة مستفيدون من هذا الوضع، ويعبرون عن بنية ثقافية توظف المعرفة لصالح الهيمنة على المنطقة بمشاركة محلية. إنهم جزء من وعي زائف مهما ادعى الحكمة.