استمع إلى الملخص
- ديون قطاع الكهرباء تصل إلى 32 مليار دولار، مع خيارات قاسية أمام المستهلكين بين قطع الكهرباء لساعات أو دفع ثلاثة أضعاف السعر، وسط مشكلات في توفير البترول والطاقة.
- استطلاعات الرأي تكشف عن غضب المستهلكين من ارتفاع أسعار الكهرباء، مع تأكيد الخبراء على أهمية الحوار المجتمعي والبحث عن حلول إبداعية تشمل الاستثمار في الطاقة المتجددة لتخفيف الضغط على الشبكة.
وسط معاناة من انقطاع الكهرباء لمدة تزيد عن ساعتين يوميا، للصيف الثاني على التوالي، دعت الحكومة المصرية المواطنين إلى حوار مجتمعي، للاختيار بين حلين كلاهما مرّ، إما استمرار أزمة كهرباء خانقة تؤرق المستهلكين ومواصلة تقنينها وقطعها بضع ساعات يومياً، أو قبولهم ارتفاع سعر الكهرباء بمعدلات تصل إلى الضعف.
وتخطط الحكومة لرفع الأسعار، وفقا لاتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي، ينفذ بدءاً من يوليو/ تموز المقبل، يقضي بأن تتوقف الدولة عن دعم قطاع الطاقة بشقيها الكهرباء والمحروقات وتخفيض دعم الخبز وتحويل الدعم العيني للسلع إلى دعم نقدي. ويحدد بيان الحكومة للبرلمان أن الدعم المستهدف لسعر الغاز والسولار والبنزين خلال العام المالي المقبل 154.5 مليار جنيه لدعم المواد البترولية، و134.2 مليار جنيه للسلع التموينية، بينما تعمل الكهرباء بنظام "الدعم التبادلي" بين المستهلكين، بما يزيل عن الموازنة العامة أية أعباء مالية عن بيع الكهرباء للجمهور.
تظهر تقارير وزارة الكهرباء، ارتفاعا هائلا في ديون القطاع، تصل قيمتها إلى نحو 32 مليار دولار، من جراء إقامة مشروعات التوليد والشبكات، بقروض مرتفعة التكلفة. وقد فوجئ المواطن بوضع الرئيس عبد الفتاح السيسي، المستهلكين السبت الماضي، بين خيارين، إما أن تواصل الحكومة سياساتها المتبعة منذ عامين، بقطع التيار الكهربائي لمدد تتراوح بين ساعتين وثلاث ساعات يوميا، أو أن يكون ثمن الكهرباء ثلاثة أضعاف السعر الحالي، مستدركا بأن الدولة لا تريد أن تصل بالأسعار إلى هذا المستوى، إلا أن وزارة الكهرباء تواجه مشكلة في توفير البترول والطاقة بسعر يفوق ثمن ما تحصل عليه نظير الخدمة.
وقال السيسي، يوم السبت الماضي إن تكلفة إنتاج رغيف الخبز على الدولة هي 1.25 جنيه، ومخصصات دعمه في الموازنة العامة نحو 130 مليار جنيه، بينما تظهر أرقام الموازنة الجديدة للعام 2024/ 2025 أن تكلفة دعم الخبز لا تتجاوز 90.75 مليار جنيه، بتكلفة 0.94 جنيه لكل رغيف خبز مدعوم على البطاقات التموينية. (الدولار = 47 جنيهاً تقريباً). ويأتي ذلك في إطار إعلان الحكومة عن دراستها رفع أسعار الكهرباء وخبز الفقراء تدريجيا خلال الفترة المقبلة.
أزمة الكهرباء مستمرة
وفي استطلاع قامت به "العربي الجديد"، رصدت حالة من الغضب بين المستهلكين من جراء انتشار الدعوة الرسمية، حيث يخشون أن تدفع أسعار الكهرباء إلى موجات غلاء جديدة، بينما ينتظرون من الحكومة أن تساعدهم على خفض أسعار السلع. ويرفض العاملون في قطاع الزراعة المساس بسعر الكهرباء والمحروقات التي رفعت تكلفة المنتجات الزراعية بنحو 50% خلال أربعة أشهر، بينما ساهمت في عدم هبوط أسعار اللحوم والدواجن، مع توقع الناس تراجعها لتوافر الدولار لمستوردي الأعلاف والأدوية من الخارج. ورغم تباين مواقف المستهلكين بقطاع الصناعة، إلا أن دفعهم للاختيار بين استمرار أزمة انقطاع الكهرباء أو ارتفاع الأسعار أدهش الجميع.
يذكر عضو لجنة الصناعة بجمعية رجال الأعمال المصريين، أحمد غراب، أن أسعار الكهرباء في مصر ما زالت أرخص من الدول المجاورة والمنافسة لها بالمنطقة، مؤكدا أن هذه الميزة ترفع من جاذبية الاستثمار الأجنبي المباشر، لا سيما أن الحكومة لا تقطع التيار الكهربائي عن المناطق الصناعية والمصانع عالية الاستهلاك.
ويعتبر غراب أن الزيادة المقترحة في سعر الكهرباء انعكاس مباشر لقرارات التعويم المتكررة للجنيه، وأن انخفاض قيمة العملة أدى إلى عجز بإيرادات شركات الكهرباء وارتفاع تكلفة الغاز والوقود المستوردين من الخارج. كما يؤكد غراب لـ "العربي الجديد" أن الحكومة استثمرت أموالا طائلة لإقامة محطات التوليد وتطوير شبكات التوزيع، بما حسّن من قدرتها على مواجهة احتياجات المستهلكين وخاصة المناطق الصناعية، بينما تصاعدت أزمة الغاز الطبيعي، فلم يعد يكفي لتشغيل المحطات فحسب، بل المصانع التي تعتمد عليه عنصراً رئيسياً في الإنتاج، مثل شركات البتروكيميائيات والأسمدة والحديد والإسمنت.
الكهرباء في مصر.. خياران كلاهما مرّ
يبيّن خبير اقتصاديات الطاقة والبرلماني السابق، محمد فؤاد، أن وضع المستهلكين بين خيارين كلاهما مرّ، إما برفع السعر أو قطع التيار عنهم، يتجاهل وجود حلول كثيرة يمكن بحثها دون أن تظل الدولة عالقة في النفق المظلم. وفي السياق، يشير فؤاد إلى أن حقول الغاز المحلية تنتج نحو 4.2 مليارات قدم مكعبة يوميا، بينما يصل الاستهلاك في حده الأقصى خلال فصل الصيف، إلى 6.2 مليارات قدم مكعبة، وطبقا لاتفاق مسبق طويل الأجل، مع إسرائيل نستورد منها مليار قدم مكعبة، ما يعني وجود عجز يومي في حدود مليار قدم مكعبة.
ويضيف فؤاد لـ"العربي الجديد" أن أرقام الإنتاج والاستهلاك واضحة تماما أمام الحكومة وكبار المسؤولين منذ العام الماضي، مع ذلك لم تتحرك الحكومة لحل أزمة نقص الوقود إلا الشهر الماضي، بما يجعل مواجهة الأزمة عالية الكلفة. ويوضح أن الحكومة أجلت شراء الغاز الرخيص بسعر آجل والآن مجبرة على الدفع الفوري لعمليات الشراء بسعر مرتفع، مشيرا إلى أن الفرق في قيمة تكلفة الشراء الآجل والفوري يصل إلى نحو مليار دولار، وهو نفس المبلغ الذي كانت ستدفعه الحكومة لتدبير احتياجاتها من الغاز لمواجهة أزمة الوقود مبكرا.
هذا ويذكر فؤاد أن الحكومة كانت تعلم حجم المشكلة منذ تسعة أشهر، في وقت كان لديها فائض أولي بالموازنة العامة 2023/ 2024، قدّره وزير المالية محمد معيط بنحو 416 مليار جنيه، مؤكدا في تصريحاته أن الحكومة في حاجة لتدبير 3.6 مليارات دولار لشراء الغاز والوقود اللازمين لمواجهة انقطاعات التيار، بما يعادل 162 مليار جنيه، تمثل 38% فقط من إجمالي الفائض. ويؤكد الخبير الاقتصادي أن الحكومة كانت لديها خيارات عديدة، من بينها قطع الكهرباء لمواجهة العجز في الغاز أو تعظيم الموارد لشركات الكهرباء، برفع سعر الشرائح العليا للمستهلكين بالقطاعات المنزلية والتجارية، مشيرا إلى أن الدولة لا تدعم الكهرباء منذ سنوات، وإنما تجري "دعما تبادليا" حيث تتحمل الفئة الأكثر استهلاكا قيمة العجز في سداد الفواتير، الذي تحصل عليه الفئات الأدنى من قيم الاستهلاك.
ويتابع أن رفع السعر بنسبة 50% للشرائح العليا سيمكن الدولة من الوفاء بالتزاماتها تجاه الفقراء ولن يضر هذه الفئة من ذوي الدخل المرتفع، لافتا إلى أن ما تقترحه السلطة من حوار مجتمعي حول مواجهة الأزمة، بعد استفحالها بمثابة "بكاء على اللبن المسكوب"، لأن المكاشفة المطلوبة كانت تتطلب التفكير في تخطيها منذ عام، بما يساهم في حلها، وتخطي البكائيات التي تختزل الضعف الإداري واتباع سياسة "كله تمام" في حل جذري لأزمة متراكمة. ويطالب النائب السابق بأن يكون الحوار حول الأزمة صريحا وكاشفا لأبعادها، ووضع حلول من خارج صندوق السلطة، عبر حوار جدي، يراعي مصالح الفقراء وقطاعي الصناعة والزراعة، ودمج وزارتي البترول والكهرباء في كيان واحد، لضبط الأرقام المتضاربة بين الجهتين حول كميات الإنتاج والاستهلاك للغاز والوقود وتكلفة تشغيل المحطات وتوليد الكهرباء للمستهلكين.
خسائر فادحة للصناعة بسبب الكهرباء
بدوره، يشدد عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، محمد البهي، على خطورة قطع الكهرباء عن أية مشروعات إنتاجية، واللجوء إلى رفع الأسعار لمواجهة أزمة تكبد الصناعة خسائر فادحة، بالإضافة إلى ما تتحمله الشركات من تكلفة نتيجة الحرب على غزة، واضطراب حركة الشحن في البحر الأحمر وسلاسل التوريد، مع ارتفاع التكلفة بسبب زيادة سعر الدولار، والجمارك ومستلزمات الإنتاج.
يقول البهي لـ"العربي الجديد" إن قطع التيار عن أفران مصانع الحديد أو الزجاج يحدث كوراث، ويسبب ارتباكا بالتشغيل وإدارة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مقترحا عدم المساس بأسعار الكهرباء للصناعات التي تعتبر الكهرباء عنصرا أساسيا في مكونات منتجاتها، بينما يمكن تحريكها بنسبة معقولة في الصناعات التي تمثل الكهرباء بها ما بين 2 و5% فقط، حيث يسهل ترحيل الزيادة بالتكلفة على بقية مدخلات السلعة وعدم نقل أثرها التضخمي للأسواق والمستهلكين.
دوامة القروض وبيع الأصول في مصر
يبدي البهي دهشته من حصر المواطنين بين خيارين سيئين، في وقت تمكنت الحكومة من تدبير ما بين 50 و60 مليار دولار، من القروض وحصة بيع مدينة رأس الحكمة، بما يعني قدرتها على توفير الدولار لشراء الوقود اللازم لتشغيل محطات التوليد التي تزيد قدرات التوليد بها عن حاجة البلاد. ويشير إلى أن استمرار أزمة انقطاع التيار يضع أمام المواطنين علامة استفهام، حول جدوى المشروعات الكهربائية التي أقيمت، مطالبا بأن تعلن الحكومة كيف ستنفق القروض وعوائد البيع التي تحصّلت عليها بالدولار أخيرا، وما هي الحلول الإبداعية التي تمتلكها للخروج من النفق المظلم الذي وضعت الاقتصاد به خلال السنوات الماضية؟ كذلك يلفت البهي إلى أن اضطراب حركة الملاحة والشحن بالبحر الأحمر يمكن أن يحول مصر إلى مركز إنتاجي تبادلي بين الشرق والغرب، وتوليد فرص هائلة، لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، بما يتطلب يقظة الحكومة لحل أزمة الكهرباء، التي تعتبر أسعارها والقدرة على توفيرها من أهم عناصر الجذب للصناعات الثقيلة والمتوسطة.
أما خبير الطاقة المتجددة، عادل السماحي، فيتوقف عند أهمية اهتمام الحكومة بتشجيع مشروعات الطاقة الشمسية، بما يسهل على المواطنين الاعتماد عليها في إنارة المنازل والمراكز التجارية والأماكن العامة، لتخفيف الضغط عن الشبكة الكهربائية الموحدة، مبينا أن تخفيف رسوم الجمارك على معدات الطاقة المتجددة، وتوعية المواطنين باستخدامها، أفضل من وضع المواطنين بين خيارين كلاهما مرّ، أو دفعهم إلى حل مشكلة بمفردهم دون أن تكون لهم القدرة أو السبيل الذي يساعدهم على حل الأزمة.
وكان رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي قد قال في تصريحات صحافية، أخيرا، إن قطع التيار لمدة ساعتين يوميا يوفر 300 مليون دولار شهريا تحتاجها الدولة لشراء الغاز الطبيعي والمازوت من الخارج أو الشركات الدولية المشاركة في إنتاج النفط والغاز محليا. وتعاقدت الحكومة على شراء شحنتي غاز مسال تصلان بداية الشهر المقبل، لتعويض الزيادة في العجز بشبكة الغازات المصرية، وزيادة استهلاك الطاقة خلال ذروة الاستهلاك صيفا. وفقد حقل ظهر شمال بورسعيد ثلثي طاقته الإنتاجية، نهاية 2022، متأثرا بسوء التشغيل ودخول مياه في أنابيب الضخ للغاز. ويمثل هذا الحقل 40% من قدرات الإنتاج بشبكة الغاز التي تساهم في توليد 70% من إنتاج محطات التوليد وتشغيل المصانع والمنازل ومحطات غاز السيارات بأنحاء البلاد.
على صعيد متصل، تسعى شركات الكهرباء إلى تجميع خمسة مليارات جنيه لدفعها إلى وزارة البترول خلال شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، علاوة على الفاتورة الشهرية لاستهلاك الوقود، بما يدفعها إلى شن حملات مكثفة على المواطنين لتحصيل فواتير الاستهلاك وإجبارهم على تركيب عدادات مسبوقة الدفع.
فواتير استهلاك الكهرباء تتفاقم
تعترف وزارة الكهرباء بأن فاتورة استهلاك الغاز والوقود بمحطات التوليد شهريا لوزارة البترول وتحصيل متأخرات فواتير الاستهلاك بالجهات الحكومية أصبحا من أهم التحديات التي تواجه شركات إنتاج الكهرباء، بينما ترتفع معدلات التحصيل من القطاع الخاص لأكثر من 95%. وقد أدى ارتفاع أسعار الكهرباء إلى زيادة بمعدلات سرقة التيار الكهربائي، خاصة بالمناطق الشعبية والنائية، والصناعية المنتشرة بين العشوائيات.
ويقدر وزير الكهرباء محمد شاكر، في تصريحات صحافية، قيمة السرقات والفقد في شبكات التوزيع بنحو 30 مليار جنيه سنويا، تستلزم تكليف جيش هائل من الموظفين وضباط الشرطة، للعمل على الحد منه، دون جدوى. ودفعت أسعار الكهرباء إلى زيادة هائلة بأسعار السلع الأساسية بالأسواق، حيث بلغ التضخم مستوى قياسيا على أساس سنوي بنسبة 38% في سبتمبر/ أيلول 2023، متأثرة بتراجع العملة والزيادة المستمرة بأسعار الكهرباء والوقود. في غضون ذلك، شكل خفض سعر العملة صدمة للمستثمرين الذين تأثروا بزيادة تكلفة التشغيل، ويحاولون الفكاك من ركود عميق مستمر منذ ثلاث سنوات، يواكب تراجع الطلب من المستهلكين غير القادرين على الشراء والمجبرين على ترشيد الاستهلاك بكل مناحي الحياة.
وسبق للبنك المركزي المصري أن خفّض قيمة الجنيه بنحو 40% مقابل الدولار، مارس/ آذار الماضي، مقابل اتفاق مع صندوق النقد الدولي بمنح الحكومة قروضا واستثمارات من الصندوق ومؤسسات التمويل الدولية والإمارات تبلغ نحو 57 مليار دولار. ويقضي الاتفاق بوضع خريطة طريق واضحة للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، تشمل رفع أسعار الكهرباء والمحروقات، وخفض النفقات والاستثمارات الحكومية خلال العام المالي 2024/ 2025. يسير الاتفاق في اتجاهين متضادين، حيث يستهدف خفض معدلات التضخم المرتفعة من 32.5% حاليا إلى أقل من 20%، نهاية العام الجاري، بينما تساهم زيادة الكهرباء والمحروقات في تسخين موجات التضخم، لتشمل السلع والخدمات كافة.