بات المستثمرون حول العالم حائرين، قلقين، مذعورين، مترددين في اتخاذ القرارات، عازفين عن المخاطرة، غير متحمسين للمغامرة وقنص الصفقات حتى وإن كانت جذابة ورابحة بالمعايير الاستثمارية والمالية، يخشون تبخر أموالهم ومدخراتهم، وتكبد الخسائر أكثر من أي وقت مضى، يراودهم في أحلامهم شبح الإفلاس والتعثر والتصفية وتراجع الأرباح والعمولات والصفقات والمبيعات.
يتساوى في تلك الحيرة، والقلق، كبار مؤسسات إدارة الأموال وصناديق وبنوك الاستثمار الدولية وأصحاب المليارات الضخمة وكبار المضاربين وقناصو الصفقات مع الأفراد العاديين الذين يريدون الحفاظ على ما تبقى من "تحويشة العمر" من التآكل والخسارة والزوال.
تزداد حالة الحيرة والقلق تلك بسبب الخسائر الفادحة التي تعرض لها كبار المستثمرين حول العالم وتقدر بتريليونات الدولارات خلال فترة وجيزة، وتهاوي فرص الاستثمار وحركة التجارة والصفقات، وتكدس تريليونات أخرى في البنوك بحثاً عن وسيلة استثمار آمنة.
كما تظهر تلك الحيرة في الانتقال السريع للأموال من سوق أو دولة لأخرى، ومن قطاع لآخر، والهروب السريع للاستثمارات من الأسواق الناشئة إلى الأسواق الغربية رغم تضاءل فرص الاستثمار بها.
أسباب حالة القلق والذعر التي يمر بها المستثمرون حول العالم كثيرة ومنها زيادة المخاطر التي تكتنف الاقتصاد الدولي والناتجة بدرجة أساسية من استمرار تفشي كورونا، وظهور الموجة الثانية للجائحة التي ضربت بقوة العديد من الدول، مع تهاوي قدرة العديد من الدول على مواجهة الخسائر الهائلة التي تتعرض لها.
الأسباب ناتجة كذلك من زيادة الدين العام العالمي وعجز موازنات الدول لدرجات غير مسبوقة، وتراجع إيرادات الدول خاصة من الضرائب والرسوم والمصادر السيادية، وإصابة معظم اقتصادات العالم بحالة كساد لم تشهدها منذ الكساد الكبير في العام 1929.
حتى وقت قريب، كان الذهب هو الاستثمار الآمن للدول والمؤسسات والأفراد، ولذا اندفع الجميع نحو شراء أطنان منه عقب تفشي كورونا، وهو ما أدى إلى حدوث قفزات في سعره، وتوقعات بوصول سعر الأوقية إلى 3 آلاف دولار خلال فترة قصيرة تصل إلى 3 سنوات.
لكن جاذبية المعدن النفيس لم تستمر كثيراً، فالدول والبنوك المركزية سارعت نحو بيع كميات منه للحصول على سيولة تمكنها من تغطية الخسائر الناتجة من الفيروس وتمويل حزم الإنقاذ المخصصة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد والشركات وانتشار البطالة والإفلاس.
فوفق بيانات مجلس الذهب العالمي، فإن البنوك المركزية العالمية تحولت خلال شهر أغسطس/ آب الماضي من مشترين للذهب إلى بائعين، لأول مرة منذ حوالي عام ونصف، فقد باعت تلك البنوك 12.3 طنا من الذهب خلال الشهر، لتتراجع حيازتها إلى نحو 35.123 ألف طن.
وحتى وقت قريب، كان الدولار من أفضل العملات جاذبية للمستثمرين، سواء المؤسسات والأفراد، لكن هذه الجاذبية سرعان ما انطفأت عقب الأزمة العنيفة التي مر بها الاقتصاد الأميركي، ومسارعة مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى خفض سعر الفائدة على العملة الأميركية لنحو ربع في المائة، وهو ما أفقده جاذبيته في الاستثمار، خاصة وأن مؤسسات وبنوكاً عالمية كبرى نصحت بالتخلص من الدولار، وتوقعات أخرى باستمرار تراجع سعره خاصة في حال فوز جو بادين في الانتخابات الأميركية.
ينطبق ذلك على العملات الأخرى وفي مقدمتها اليورو والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري والين الياباني وغيرها من العملات الرئيسية، والتي تواجه اقتصاداتها مشاكل حادة بسبب جائحة كورونا وحالة الكساد.
أما الأسهم فقد شهدت انهيارات في العديد من أسواق العالم، خاصة مع تكبد الشركات المقيدة بالبورصات خسائر فادحة بسبب تهاوي أرباحها ومبيعاتها وصادراتها، ولذا بات الاستثمار في الأسهم عالي المخاطر في ظل حديث عن طول ركود الاقتصاد العالمي مع استمرار الفيروس حتى إيجاد مصل.
إزاء هذا الوضع، يظل المستثمر في حالة قلق مستمرة وتردد في اتخاذ القرار، خاصة وأنه في المقابل، يرى مستهلكاً عازفاً عن الإنفاق لأنه لا يعرف ماذا سيحدث غداً، وبات يؤمن أن الأفضل هو الاحتفاظ بالسيولة حتى انقشاع غمة كورونا.