خلال كلمته بالمؤتمر الاقتصادي المنعقد حاليا في القاهرة، قال مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، إن الأولوية بالنسبة للحكومة هي التركيز على كبح جماح التضخم، وليس سعر العملة المحلية.
وهذا أمر جيد ومطلوب، وخاصة أن الهدف الأول لحكومات العالم حاليا هو مواجهة داء التضخم الجامح الناتج عن قفزات أسعار النفط والغاز والقمح والأغذية والسلع الأولية والمواد الخام.
باعتبار أن هذا الداء يمكن أن يقود الاقتصاد إلى كوارث، ركود تضخمي يدمر الأخضر واليابس ويضغط على الأسواق والأسعار والعملة المحلية ويعمق الكساد ويزيد حالات الإفلاس.
هنا نكون أمام مرحلة جديدة تعني أن البنك المركزي قد يتخلى عن سياسة الدفاع عن الجنيه المصري وتثبيت سعره
وقبلها بأيام أكد هشام عز العرب، مستشار محافظ البنك المركزي المصري، على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين بواشنطن، أن تثبيت سعر الجنيه المصري ليس هدفاً.
وأشار عز العرب إلى أن كل زيادة 10% في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه تؤدي إلى ارتفاع التضخم في مصر 4%، أما تراجع الدولار 10% مقابل الجنيه فيخفض التضخم 0.5%.
إذا ما تم وضع التصريحين السابقين جنبا إلى جنب مع ما قاله حسن عبد الله، القائم بأعمال محافظ البنك المركزي المصري، مساء أمس الأحد، من أن البنك يعمل على إنجاز مؤشر للجنيه أمام سلة عملات أجنبية وذهب، وأن الإجراء يهدف إلى خفض تأثر سعر صرف الجنيه أمام تطورات الدولار، فإننا هنا نكون أمام مرحلة جديدة تعني أن البنك المركزي قد يتخلى عن سياسة الدفاع عن الجنيه المصري وتثبيت سعره، وهي السياسة التي طبقها طوال السنوات الماضية.
وكان من أبرز إيجابيات تلك السياسة المتبعة حدوث استقرار في معدل التضخم وسوق العملة وأسعار السلع والمواد الخام داخل الأسواق، لكن في المقابل كانت لها نتائج خطيرة على سوق الصرف والقطاع المصرفي وإيرادات الدولة الدولارية.
بالطبع فإن سياسة التخلي عن الدفاع عن الجنيه المصري، في حال تطبيقها، لها مزايا عدة، منها الحفاظ على ما تبقى من احتياطي نقد أجنبي لدى البنك المركزي وعدم استنزافه في الدفاع عن العملة المحلية وربما بشكل مصطنع ولأهداف سياسية كما جرى طوال السنوات الماضية.
وهنا يوجه البنك المركزي الاحتياطي النقدي لتحقيق هدف أساسي هو سداد الأعباء الخارجية المستحقة على الدولة سواء كانت أعباء وأقساط ديون، أو سداد فاتورة استيراد السلع الرئيسية من أغذية وأدوية ووقود، والتخلي عن الهدف الآخر للاحتياطي، وهو دعم العملة المحلية والدفاع عن قيمة الجنيه في وجه الدولار.
التخلي عن سياسة تثبيت سعر الجنيه له مخاطر، منها خضوع الجنيه لتقلبات، إما بسبب مضاربات، أو بسبب نقص النقد الأجنبي
لكن في المقابل، فإن التخلي عن سياسة تثبيت سعر الجنيه له مخاطر شديدة، منها خضوع العملة المحلية لتقلبات، إما بسبب مضاربات من قبل تجار السوق السوداء، أو بسبب نقص النقد الأجنبي كما جرى منذ بداية العام الجاري أو قبل تعويم الجنيه في 2016.
وفي حال حدوث هذا التذبذب فإنه يؤدي إلى خضوع أسعار السلع أيضا لتقلبات شديدة وحادة خاصة مع استيراد مصر ما يزيد عن 60% من السلع الغذائية باعتبار أنها أكبر مستورد للقمح والزيوت النباتية في العالم، وهذا خطر على المواطن والتضخم.
وقبل تفعيل هذه الآلية المتبعة أصلا في العديد من البنوك المركزية، فإن الأمر يتطلب توافر سيولة كافية من النقد الأجنبي لتلبية احتياجات الأسواق والمتعاملين معها حتى لا يحدث ضغط على الجنيه بسبب زيادة الطلب على الدولار، وخاصة أن السوق متأكد من أن البنك المركزي قد لا يتدخل مستقبلا للدفاع عن العملة المحلية في وجه المضاربات أو في حال الطلب الإضافي على النقد الأجنبي للمحافظة على الاحتياطي النقدي.
على البنك المركزي مواصلة التدخل في سوق الصرف ليس للدفاع عن العملة المحلية وتثبيت سعرها كما جرى في السنوات الماضية
وحتى تحقيق هذا الهدف، وهو توافر سيولة دولارية كافية، يجب على البنك المركزي معالجة هذه النقطة الخطيرة، والحل هنا يكمن عبر مواصلة تدخل البنك في سوق الصرف ليس للدفاع عن العملة المحلية وتثبيت سعرها كما جرى في السنوات الماضية.
وهو ما أدى إلى نزيف الاحتياطي وضعف الجنيه وليس تقويته. ولكن لضبط التعاملات النقدية والتأكد من تفعيل آليتي العرض والطلب خاصة في مرحلة معاناة السوق من ندرة في النقد الأجنبي.
وهنا ينتقل البنك المركزي من دور المدافع عن العملة المحلية والتعامل معها على أنه تشبه علم الدولة إلى ضابط سوق الصرف ومدير السياسة النقدية وهو صلب مهمته.