منذ التسعينيات، اعتمد لبنان سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، معتمداً بذلك على احتياطات المصرف المركزي من العملة الصعبة. وكما هو معلوم، كانت هذه السياسة بالتحديد إحدى أبرز أسباب تراكم الخسائر في النظام المالي، خصوصاً مع استماتة المصرف المركزي بالدفاع عن سعر صرف الليرة اللبنانية، خلال الأعوام التي شهدت "عجوزات" ميزان المدفوعات المتتاليّة قبل الانهيار المصرفي الكبير في العام 2019، علماً أنّ ميزان المدفوعات يعكس عمليّاً صافي التبادلات الماليّة بين البلاد والخارج خلال سنة معيّنة.
علاقة خسائر النظام المصرفي بسياسة تثبيت سعر الصرف قبل 2019 واضحة جدّاً. فالاحتياطات المتوفرة في المصرف المركزي، هي عمليّاً سيولة المودعين التي أودعتها المصارف لدى المصرف المركزي. والإنفاق من هذه الاحتياطات في ظلّ أزمة السيولة وشح العملة الصعبة وعجز ميزان المدفوعات، للمحافظة على سعر الصرف وتمويل عمليات القطع، لم يعنِ سوى تبديد أموال المودعين. من هنا، بدأ يتكوّن تدريجيّاً ما بات يُعرف لاحقاً بفجوة ميزانيّات مصرف لبنان، أي الفارق بين موجودات المصرف والتزاماته بالعملة الصعبة.
في العام 2015، كان حجم هذه الفجوة يبلغ نحو 1.9 مليار دولار، فيما تنامى حجم هذه الفجوة تدريجياً ليصل إلى مستوى يتجاوز 55 مليار دولار في نهاية سنة 2019، بعد خمس سنوات من تمويل عمليات شراء الدولار والتحويلات إلى الخارج. أما المسألة التي ساهمت في تعميق هذه الهوّة، فكانت الهندسات الماليّة التي استهدفت جذب سيولة المصارف من الخارج إلى خزائن المصرف المركزي، ومن ثم استخدام هذه السيولة مجدداً في عمليات الدفاع عن سعر الصرف.
بعد كلّ هذه التطورات، وبعد حصول الانهيار المصرفي الكبير في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، استنفد مصرف لبنان قدرته على تثبيت سعر الصرف نتيجة كلّ الخسائر التي لحقت بميزانياته وبأموال المودعين، فخرج عندها لبنان من حقبة سعر الصرف الثابت والموحّد. أما البديل، فكان تحديد مصرف لبنان سعرين مدعومين لتأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد السلع الأساسيّة والحيويّة، مع انسحابه كليّاً من مهمّة تأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد باقي السلع، وترك هذه المهمّة للسوق السوداء (أو الموازية). وبذلك، دخلت البلاد مرحلة أسعار الصرف المتعددة، مع كلّ ما رافقها من فوضى في سوق القطع وانهيارات متتالية في سعر الصرف في السوق الموازية.
لكنّ الانتقال من حقبة تثبيت سعر الصرف إلى مرحلة دعم استيراد السلع الحيويّة وتعدد أسعار الصرف لم يعنِ نهاية استنزاف احتياطات المصرف المركزي، وتراكم الخسائر فيها، وتبديد ما تبقى من سيولة النظام المالي المتأتية من أموال المودعين. فعمليّة دعم الاستيراد كانت تتم عمليّاً من الاحتياطات المتبقية، فيما تشير أرقام المصرف المركزي إلى أنّ نحو 16.49 مليار دولار من هذه الاحتياطات خرجت من المصرف منذ حصول الانهيار المصرفي، مع العلم أنّ غياب قانون الضوابط على سيولة النظام المصرفي، أو ما يعرف بالـ"كابيتال كونترول" سمح بإساءة استعمال هذه الاحتياطات أيضاً، وتهريبها خارج النظام المالي من دون استعمالها لغايات الدعم.
بالتأكيد، لم يكن هذا الوضع قابلاً للاستدامة بأيّ شكل من الأشكال، خصوصاً أنّ الاعتماد على ما تبقى من احتياطات في المصرف المركزي لدعم الاستيراد لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. ولهذا السبب، كان من المتوقّع من السلطتين السياسية والنقديّة أن تسارعا إلى وضع خطة شاملة، تكفل إعادة توحيد أسعار الصرف تدريجيّاً على المدى الطويل، والتخلّص من أشكال الدعم المشوهة، إنّما بعد معالجة فجوة خسائر النظام المصرفي تدريجيّاً لاستعادة التدفقات النقديّة من الخارج، وبعد تأمين خروج تدريجي من حالة عدم الانتظام التي يعيشها القطاع المالي.
هذه الخطّة، كان ينبغي أن تحرص على توفر الموارد الماليّة بيد المصرف المركزي، التي تكفل له قدرة التدخل بسعر الصرف كلما استدعى الأمر، لمنع أيّ خضات نقديّة خلال مرحلة توحيد أسعار الصرف. وفي الوقت نفسه، كان من المفترض التفكير بآليات دعم حكومي بديلة، لحماية الفئات الأكثر هشاشة من تداعيات مرحلة رفع الدعم عن الاستيراد، مع ضرورة تأمين الموارد الماليّة لتمويل هذه الآليّات.
عمليّاً، لم يحدث أيّ من هذه الأمور، بل وصلت البلاد اليوم إلى مرحلة استنفاد احتياطات مصرف لبنان القابلة للاستخدام في عمليات دعم الاستيراد، وما تبقى من هذه الاحتياطات ليس سوى الاحتياطي الإلزامي الذي لا يفترض أن يتم استعماله في عمليات الدعم، لكون إيداعه في مصرف لبنان فُرض على المصارف كضمانة للمودعين. وبذلك، يمكن القول إنّ الخروج التدريجي من مرحلة تعدد أسعار الصرف، ودعم الاستيراد، فُرض على البلاد الآن كأمر واقع، وعلى شكل ارتطام قاس ومؤلم، بدل أن يجري من خلال خطة واسعة ومدروسة تحمي محدودي الدخل من تبعات هذه التطورات.
النتيجة البديهيّة لرفع الدعم عن الاستيراد ستكون اليوم انتقال الطلب على الدولار لاستيراد المواد الأساسيّة من احتياطات مصرف لبنان إلى السوق الموازية. وبغياب أيّ تدفقات خارجيّة وازنة من العملة الصعبة إلى البلاد، نتيجة استمرار أزمة القطاع المالي، سيمرّ لبنان بمرحلة صعبة من الانهيار الإضافي في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وبالمزيد من التضخّم في أسعار السوق. ومع كلّ انهيار إضافي في سعر الصرف، تزداد نسبة القابعين تحت خط الفقر، خصوصاً أنّ مداخيل الغالبيّة الساحقة من العائلات المقيمة في لبنان هي اليوم بالعملة المحليّة.
آليّة الدعم البديلة الوحيدة التي يجري الحديث عنها اليوم هي البطاقة التمويليّة، لكنّ مصادر تمويل هذه البطاقة معدومة. وإذا قررت السلطة الاعتماد على ما تبقى من دولارات في مصرف لبنان لتمويلها بالعملة الصعبة، فالنتيجة ستكون تعريض المصرف لدعاوى المودعين في الدول الأجنبيّة، ما قد يؤدّي إلى الحجز على سيولته لدى المصارف المراسلة، كون ما تبقى من دولارات ليس سوى الاحتياطات الإلزاميّة المودعة كضمانة للمودعين، والتي لا يفترض أن يُمس بها.
أما إذا قررت الحكومة الاعتماد على طبع العملة مجدداً لتمويل البطاقة التمويليّة، فسينتظر المقيمون في لبنان مزيداً من التضخم وانهيار سعر الصرف.
باختصار، إنّها مرحلة الصدمة السريعة. فالتثبيت الصارم لسعر الصرف قبل 2019 حمل نتائجه المدمّرة، ومرحلة تعدد وفوضى أسعار الصرف بعد 2019 حملت أضرارها. لكنّ الانتقال إلى سعر الصرف المرن والموحد، من دون أن يكون جزءاً من خطة تصحيح شاملة، سيكون بالنسبة إلى لبنان لحظة ارتطام مفاجئ وقاسٍ.