الليرة اللبنانيّة وتداعيات إضراب المصارف

20 مارس 2023
أزمة المصارف اللبنانية تتفاقم وتفقر اللبنانيين (getty)
+ الخط -

منذ الأوّل من شهر مارس/ آذار، استقرّت قيمة الدولار في السوق الموازية اللبنانيّة عند مستويات تراوح بين 80 ألفاً و100 ألف ليرة للدولار الواحد.

فمصرف لبنان كان قد أعلن منذ ذلك الوقت تدخّله في السوق، وضخّ العملة الصعبة فيها، وفتح باب بيع الدولارات للشركات والأفراد، من خلال منصّة صيرفة التي يجري تشغيلها في الفروع المصرفيّة.

وكان مفعول الدولارات التي ضُخَّت منذ ذلك الوقت كافياً لفرض تهدئة نسبيّة في سوق القطع.

إلا أنّ هذا المشهد بدأ بالتغيّر يوم الخميس 9 مارس/ آذار الماضي، حيث عاد الدولار لتسجيل ارتفاعات يوميّة متتالية وقاسية، بمجرّد صدور بيان عن جمعيّة المصارف يعلن عودتها إلى الإضراب وإقفال الفروع المصرفيّة، ابتداءً من يوم الثلاثاء التالي.

مع الإشارة إلى أنّ الجمعيّة كانت قد أقفلت فروعها خلال شهر فبراير/ شباط لثلاثة أسابيع متتالية، احتجاجاً على قرارات وتحقيقات قضائيّة استهدفتها، بينما عادت إلى إضرابها حالياً للأسباب نفسها.

في كل الحالات، وبعد دخول الإضراب يومه الأوّل نهار الثلاثاء 14 مارس/ آذار، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية قد تجاوز حدود 102 ألف ليرة للدولار الواحد، ما مثّل أدنى مستوى لقيمة الليرة في تاريخها.

وبذلك، يكون سعر صرف الدولار قد ارتفع بنسبة 27.5%، خلال فترة لم تتخطَّ خمسة أيّام، بين يوم إعلان عودة الإضراب المصرفي (9 مارس/ آذار) ويوم بدء هذا الإضراب (14 مارس/ آذار).

في واقع الأمر، لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل لفهم العلاقة ما بين اشتداد الضغط على قيمة الليرة في السوق الموازية، وبدء الإضراب وإقفال فروع المصارف في جميع المناطق اللبنانيّة.

فعند إعلان الاتجاه لإقفال فروع المصارف، قبل خمسة أيّام من بدء الإضراب فعليّاً، توقّفت المصارف عن قبول طلبات شراء الدولار عبر منصّة صيرفة من عموم عملائها، وهو ما فرمل تدخّل المصرف المركزي وأوقف عمليّة ضخ العملة الصعبة في السوق.

وبذلك، عطّلت المصارف الأداة الأساسيّة التي اعتمد عليها المصرف المركزي لضبط سعر الصرف في سوق القطع منذ بداية الشهر.

ومع توقّف عمليّات بيع الدولار عبر منصّة صيرفة، توجّه كامل الطلب على الدولار إلى السوق الموازية مباشرة، ما ساهم برفع سعر صرف الدولار هناك.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أنّ المصرف المركزي أنفق نحو 300 مليون دولار منذ بداية الشهر الحالي، من خلال منصّة صيرفة، للتدخّل وضخ العملة الصعبة وضبط سعر صرف الدولار.

أمّا الإضراب المصرفي الذي استجدّ أخيراً، فأدّى إلى عودة الأمور إلى النقطة الصفر، مع انفلات سعر صرف الدولار وارتفاعه إلى مستويات قياسيّة، ما يعني أنّ كل ما أنفقه المصرف المركزي منذ بداية الشهر ذهب هباءً.

المشكلة الأهم تكمن في أنّ الإضراب المصرفي يحرم، بمجرّد إقفال الفروع المصرفيّة، السوق المحليّة الدولارات الطازجة، التي كانت تأتي من خلال التحويلات المصرفيّة الواردة من الخارج. فعملاء المصارف استفادوا طوال السنوات الثلاث الماضية من استثناء التحويلات الجديدة من القيود المفروضة على السحوبات في المصارف، إلا أنّ الإضراب المصرفي بات يحول دون سحب هذه الدولارات من الفروع حتّى في حال تلقّيها.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ المصارف عمدت إلى إحالة عملائها على ماكينات السحب الآلي، لتلقي هذه الدولارات. لكنّ عملاء المصارف ظلّوا مقيّدين بسقوف السحوبات التي يفرضها كل مصرف على بطاقات السحب، ما قلّص من كميّة الدولارات التي كانت ترد إلى السوق المحليّة من التحويلات المصرفيّة.

كذلك عانى عملاء المصارف من عدم إعادة تعبئة الماكينات بالسيولة المطلوبة على نحو يومي، بعد تسارع الطلب على سيولة هذه الماكينات. وكان من الواضح أنّ تقنين عمليّات تعبئة هذه الماكينات مثّل أحد أشكال التصعيد الذي مارسته المصارف في إضرابها، في الوقت الذي لوّحت فيه بتصعيد إضافي يصل إلى حد وقف تشغيل هذه الماكينات كليّاً.

في كل الحالات، أدّى الإضراب المصرفي، والحد من حجم الدولارات المتدفّقة من خلال التحويلات الواردة، إلى تقليص المعروض النقدي بالعملة الصعبة في السوق الموازية، وهو ما ساهم تلقائياً في زيادة الارتفاع في سعر صرف الدولار.

ومن المتوقّع أن تلجأ الغالبيّة الساحقة من عملاء المصارف إلى التوقّف عن تلقّي هذه التحويلات الجديدة خلال الفترة المقبلة، نظراً للصعوبات التي تواجههم عند محاولة سحبها نقداً، وهذا ما سيزيد بدوره من شحّ الدولارات في السوق المحليّة.

أهم ما في الموضوع، أن السوق المحليّة تلقّفت سريعاً خبر إضراب المصارف، وتوقّعت الارتفاع الذي سيسببه في سعر الصرف الدولار.

وهذا ما أشعل -بمجرّد إعلان الإضراب- موجة من المضاربات على العملة المحليّة، ما ضاعف من الارتفاعات المتتالية في سعر صرف الدولار.

أمّا المشكلة الأساسيّة هنا، فهي تفلّت عمليّات السوق الموازية بشكل تام، خارج إطار أي رقابة أو ضوابط من قبل المصرف المركزي، نتيجة توسّع نطاق اقتصاد النقد الورقي منذ بدء الأزمة المصرفيّة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العديد من المصارف عمدت، منذ بدء الإضراب، إلى ممارسة الاستنسابيّة في التعامل مع عملائها. إذ استمرّت بعض الفروع المصرفيّة بتقديم خدمات السحب النقدي والقطع لحلقة ضيّقة جداً من العملاء المحظيين، من خلال مواعيد مسبقة، مقابل حجب هذه الخدمات عن عموم الأفراد والشركات.

ولذلك، تفاوتت آثار الإضراب على عملاء المصارف، بما فيها الآثار المتصلة بارتفاع سعر صرف الدولار، نظراً لاستمرار حصول أقليّة صغيرة من العملاء على دولارات منصّة صيرفة، بالسعر المدعوم من المصرف المركزي.

أمّا الفئة التي تضررت كثيراً من الإضراب، فكانت شريحة واسعة من عملاء المصارف الذين أودعوا أموالاً بالليرة سابقاً، وتقدموا بطلبات لتحويلها إلى دولارات بسعر صرف منصّة صيرفة، وفقاً للآلية المتبعة التي تفرض إيداع الأموال بالليرة، ومن ثم انتظار أيّام عديدة قبل تنفيذ عمليّة القطع.

فبعد إعلان الإضراب، توقّفت غالبيّة المصارف عن تنفيذ عمليّات منصّة صيرفة، ما أدّى إلى تجميد كل هذه الأموال داخل الحسابات بالليرة اللبنانيّة.

وفي الوقت الراهن، تتحمّل هذه الفئة من عملاء المصارف خسائر كبيرة، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة، الذي يؤدّي تلقائياً إلى انخفاض قيمة إيداعاتها بالعملة المحليّة.

ببساطة شديدة، عادت المصارف اللبنانيّة لتفرض عقاباً جماعياً على المجتمع والمودعين، من خلال الإقفال التام لجميع الفروع المصرفيّة. وتماماً كحال الإضراب السابق، يأتي هذا الإضراب لمحاولة ليّ ذراع القضاء اللبناني، ومنعه من النظر في التجاوزات المصرفيّة التي تلت حصول الانهيار في أواخر عام 2019، ومنها تلك التي تتصل بتهريب أموال المودعين المحظيين.

المشكلة الأساسيّة حتّى اللحظة، غياب المصرف المركزي عن هذا المشهد كليّاً، وعدم اتخاذ حاكم المصرف رياض سلامة أي خطوة تجاه التمرّد الذي تقوم به جمعيّة المصارف اليوم.

فقانون النقد والتسليف يعطي المصرف المركزي صلاحيّة وضع التنظيمات والقرارات الضروريّة لتأمين حسن علاقة المصارف بالمودعين، ويفرض عليه أيضاً وضع قواعد تسيير العمل التي على المصارف أن تتقيّد بها.

وهذه الصلاحيّات بالتحديد، هي ما يفترض أن يستخدمه المصرف المركزي لحماية المودعين من التعسّف الذي تقوم به مصارف لبنان حاليّاً، ولحماية العملة المحليّة من تداعيات الإقفال المصرفي الذي يحصل اليوم.

ومن الواضح أن تقاعس المصرف المركزي عن أداء هذا الدور خلال الإضراب المصرفي السابق، هو ما شجّع جمعيّة المصارف على تكرار تجربة الإضراب مجدداً. وهذا ما قد يشجّعها أيضاً على القيام بخطوات تصعيديّة إضافيّة في المستقبل، من قبيل وقف تعبئة ماكينات الصرف الآلي، وحرمان المودعين السيولة بشكل تام.

المساهمون