الفكر الاقتصادي النسائي

الفكر الاقتصادي النسائي

08 فبراير 2024
عدد النساء في سوق العمل يرتفع في المجتمعات الغربية (Getty)
+ الخط -

فازت ثلاث نساء فقط بجائزة نوبل في الاقتصاد منذ أن بدأ منحها عام 1969. وقد بلغ عدد الفائزين بها حتى عام 2023 نساء ورجالاً، فرادى أو بالاشتراك مع آخرين، اثنين وتسعين. وهؤلاء النساء الثلاث هُن " إلينور أوستروم (Elinor Ostrom) عام 2009 بالمشاركة مع أوليفر ويليامسن (Oliver Willamson) لعلمها المتميز في مجال الاقتصاد المؤسسي، وبخاصة أبحاثها عن الحوكمة.

والثانية كانت إستر دوفلو (Esther Duflo) التي فازت بالجائزة مع زوجها أبهجيت بنارجي من أصول هندية (Abhijit Banarjee) ومايكل كريمر (Michael Kremer) بسبب دراساتهم ومقارباتهم العملية سعياً منهم لحل مشكلة الفقر في العالم.

أما الجائزة الثالثة فقد منحت لـ كلوديا غولدن (Claudia Golden) من جامعة هارفارد عام 2023 بسبب عملها الدائب لسنوات طويلة على دراسات عن المرأة ووضعها الاجتماعي طويل الأجل عبر موجات الصعود والهبوط الاقتصادي، وقد كانت غولدن ذات الثمانية والسبعين عاماً أو أقل بأشهر قد تخصصت في دراسة التاريخ الاقتصادي واقتصاد العمل (Labor Economics)، وقد كتبت رسالة الدكتوراة أثناء دراستها بجامعة شيكاغو تحت إشراف الاقتصادي روبرت فوغيل (R. Fogel) بعنوان "العبودية قبل الحرب الأهلية الجنوبية" (Slavery in Southern Antebellum Cities) وكلمة (Antebellum) اصطلاح يعني قبل الحرب أو فترة ما قبل الحرب، أما الحرب المشار إليها هنا فهي الحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت خلال الفترة (1861-1863) من أجل تحرير العبيد.

في رسالة الدكتوراة التي كتبتها، بذلت غولدن جهداً كبيراً جداً لتجميع الإحصاءات عن وضع النساء. وقد ساعدها على ذلك تطوران هامان: الأول أن المدن في الجنوب خلال عشرينيات القرن التاسع عشر كانت تشهد نشاطاً اقتصادياً كبيراً.

والمدن المشار إليها كثيرة ولكن أبرزها كانت ريتشموند في ولاية فرجينيا، وتشارلستون بولاية نورث كارولاينا، وسانت لويس في ولاية ميسوري وموبيل بولاية ألاباما، وسافانا بولاية جورجيا ونيوأورليانز بولاية لويزيانا.

وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبسبب زيادة الإنتاج الزراعي في هذه المدن الجنوبية، بدأ التجار يأتون إليها من كل مكان في أميركا اللاتينية وجزر البحر الكاريبي، وأوروبا من أجل الشراء والبيع. فازدهرت هذه المدن ازدهاراً كبيراً، واتسعت مساحاتها، وتنوعت خدماتها، وكثر الطلب فيها على العبيد.

وقد ساهم في هذا النمو بشكل كبير أن بريطانيا قد تبنت عام 1815 بعد صراع طويل مع المزارعين تشريعات ألغت بموجبها الجمارك على الحبوب المستوردة، ما أدى إلى إفلاس مزارعي هذه المواد هناك واستبدالها بسلع أقل كلفة من الولايات المتحدة. وبالمقابل كثرت مستوردات السلع الصناعية من أوروبا، وبخاصة بريطانيا، فاستفاد صناعيو بريطانيا ومزارعو الولايات المتحدة الذين كانت المياه لديهم وفيرة، والعمالة من خلال العبودية رخيصة.

وبالطبع أغضب هذا الأمر صناعيي الولايات المتحدة خاصة في الغرب الأوسط حيث يوجد الحديد والصلب. وبتأثير من الاقتصادي الألماني " فريدرك ليست"، طالب الصناعيون حكومتهم الأميركية بحماية الصناعات الوليدة في أميركا.

وقد فاز أهل الشمال والغرب الأوسط الأميركي بانتخابات عام (1860) والتي أوصلت أبراهام لينكولن إلى الرئاسة، فقام بحركة تحرير العبيد، والتي أدت إلى هجرة هؤلاء بأعداد كبيرة إلى الشرق والشمال الأميركي، ما وفر عمالة رخيصة للصناعات هناك، وأدت الحرب الأهلية التي خسرها الجنوب إلى فقدان الزراعة ميزاتها النسبية.

ولذلك بدأت أميركا بالتركيز أكثر مع الوقت على التصنيع والصناعات المتنوعة، والتي عادت إلى استخدام الإنتاج الزراعي الأميركي كمواد خام للصناعات الغذائية، الأمر الذي ساهم في إعادة المسار التنموي إلى الجنوب بعد عقود.

وقد وجدت الاقتصادية "غولدن" أن الإحصاءات والأرقام التي عملت عليها عبر الزمن قد مكنتها من أن تخرج بمنحنى عن وضع المرأه استقته أساساً من دراستها لتاريخ الاقتصاد الأميركي، ثم لاحقاً من دراساتها وأبحاثها بعد تخرجها وانشغالها في التدريس والبحث انتهى بها إلى جامعة هارفارد.

موقف
التحديثات الحية

وبموجب دراسات غولدن، فإن عمل المرأه يأخذ شكل حرف اليو( U) بالإنكليزية: أي أن النساء في عصر الزراعة يشاركن بقوة في العمل الزراعي والصناعات المنزلية، ولكن بعد الانتقال إلى الصناعة، وزيادة التركيز فيها على الرجال وعلى العبيد، فقد بدأت النساء الانسحاب من سوق العمل من أجل التمتع بالحياه والمباهاه والاستهلاك.

ولكن تحسن موقعهن الاجتماعي يفتح أمامهن باب التعليم فيبدأن بالعودة تدريجياً إلى سوق العمل. ومتى عدن إليه يشعرن بالتمييز ضدهن من قبل أصحاب العمل لأنهن أكثر كلفة عليه من الرجال بسبب الطبيعة النسائية، والحمل والولادة التي تؤدي إلى انقطاع المرأة عن العمل إما بشكل دائم أو لفترة أمومة يعدن بعدها إلى نفس المناصب التي كن فيها سابقاً، بينما يفوز الرجال الذين يبقون في العمل بمناصبهن. وهكذا يحصل التمييز بين الرجال والنساء بسبب الفرق في الأجور والفرق الشاسع في فرص البقاء والترقية والوصول لمناصب إدارية.

أما بعد ذلك، فتبدأ النساء في تعليم بناتهن والإصرار على ذلك، وحضهن على المنافسة مع الرجال. ومع دخول "موانع الحمل" (Contraceptives) وضبط العادات الصحية، تبدأ النساء باتخاذ قرارات يسعين للتوفيق فيها بين بقائهن عاملات والمنافسة مع الرجال وتنظيم الحمل حتى يحافظن على أجورهن ومناصبهن. وهكذا يرتفع عدد النساء في سوق العمل.

وهذا البحث الذي أجريته على كتابات وأعمال غولدن ذكرني بأعمال الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1971 سايمون كوزنتس (Simon Kuznets) والذي درّسني مادة التنمية الاقتصادية قبيل فوزه بالجائزة عام 1969/1970. لقد كان كوزنتس أستاذاً في مادتي التنمية الاقتصادية طويلة الأجل ودوراتها وتأثيرها على توزيع الدخل، وقد قام كوزنتس بوضع منحنى سمي باسمه "Kuznets Curve" والذي يقول إن هناك علاقة بين اللامساواة والتنمية يمكن رسمها على شكل منحنى حرف اليو " U" المقلوب، فيكون شكله هكذا "∩".

وخلص كوزنتس إلى الفرضية أن النمو في الدول يسبب في البدايات لا مساواة متصاعدة حتى تصل الأمور بعدها إلى قمة المنحنى، ومن بعدها تبدأ هذه العلاقة السلبية في التراجع بسبب تغير أنماط الإنتاج، وبسبب ما يُدْعى التنقيط إلى الأسفل (Trickle Down Effect)، أي أن الأغنياء سيتفهمون بعد فترة ضرورةَ منح العمال أجوراً أعلى حتى تتحسن إنتاجيتهم ويستمرون في تنمية قدراتهم. وكذلك بسبب توزيع الثروة بعد التطور التكنولوجي المطلوب.

لا شك أن الوطن العربي الذي يمر في الوقت الحالي في بعض أقطاره بمراحل التحول من مجتمعات ريعية إلى مجتمعات إنتاجية، يجب أن يركز على أمرين أساسيين، الأول هو متابعة خرائط توزيع الدخل والثروة مستفيداً من أفكار كوزنتس وغيره الكثيرين ممن درسوا توزيع الدخل خاصة بين مختلف الطبقات والمناطق في الدول. والثانية هي الإدراك أن الانتقال من نمط إنتاجي إلى آخر يؤدي إلى زيادة الضغوط على الطبقات الهشة في المجتمع مثل المرأة والفقراء. وقد يكون للسيدات الدارسات للاقتصاد إحساس أعمق بهاتين القضيتين.

المساهمون