الفساد في مصر من "الركب" إلى الحناجر

08 فبراير 2022
الفساد يحاصر الاقتصاد المصري والغلاء يطحن المواطن (getty)
+ الخط -

ينتظر المحللون الاقتصاديون وكثير من النخب السياسية ورجال الأعمال، صدور التقرير السنوي لمدركات الفساد، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية في شهر يناير من كل عام.

يتسابق المصريون عادة على ترجمة التقرير الذي أصبحت له سمعة دولية جيدة، منذ صدوره الأول عام 1995، لكونه مليئا بمعلومات، من جهات رسمية عن كل دولة، بينما هم لا يحصلون عليها بسهولة من حكوماتهم.

تفيد المعلومات في إثارة جدل، بين كافة الأطراف، وزادت أهميته حينما هبت ثورات الربيع العربي، التي وضعت على قائمة مطالبها القضاء على الفساد، الذي تبين أنه كان يهدر نحو ثلث ميزانية مصر سنويا، وفقا لما أعلنه كثير من الخبراء حتى عام 2012.

الحديث عن الفساد، دفع من يريدون الترشح لمناصب سياسية أو ركوب الثورة، إلى وضعه في مقدمة أهدافه، إلى أن أنشأ النظام الجديد "الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد"، لتعمل بالتعاون مع 16 جهازا رقابيا في الدولة، من بينها المخابرات وأمن الدولة، وانتهاء بالجهات القضائية والبرلمان.
لم يمر العام، فإذا بمؤشر "مدركات الفساد"، يضع مصر في مرتبة أفضل بدرجتين عن المعهود. أقام النظام الأفراح ابتهاجا بالنتيجة التي اعتبرها دليلا على نجاحه، في الإدارة والحكم الرشيد، بما يخالف ما يقال عنه في الإعلام "المضاد" أو الخارجي، وطالب بتنظيم المؤتمر الدولي لمكافحة الفساد الذي حضرته وفود من 76 دولة بمنتجع شرم الشيخ في ديسمبر 2021.
تعددت التقارير، رغم بقاء الحال على هو عليه لمدة عامين، حتى بدأ المؤشر في الانخفاض، فقل ذكره على ألسنة المسؤولين، إلى أن جاء التقرير الأخير، فصدرت الأوامر بعدم نشر أية معلومات عنه، في أية وسيلة إعلامية، وحجب الموقع الإلكتروني للمنظمة الدولية.

جاء التقرير هذا العام كاشفا ليس حجم الفساد في مصر، فقط بل ليفضح الأنظمة العربية التي تتعايش معه وتقنن أدواته عبر شخصيات ومؤسسات رسمية!
دفع الأمر المنظمة الدولية إلى التساؤل، عن أسباب عدم تحقيق أي دولة عربية، تقدما في أوضاع الفساد بعد ثورات الربيع العربي. فالإمارات وقطر في مقدمة قائمة الدول العربية محاربة للفساد، تتنافسان على المرتبة الأولى منذ سنوات، لأنهما اعتمدتا على التكنولوجيا وحكومة الإدارة، وإصدار القوانين للحد منه، إذ حققت الامارات 69 درجة، من أصل مائة درجة لتحل في المركز 24 عالميا، تليها قطر بـ 63 درجة في المركز 31 عالميا، بينما مصر ما زالت على الطريقة الميري "محلك سر" في المنطقة الحمراء، وتحتل رقم 11 على مستوى الدول العربية و117 عالميا.
مع التجاهل الرسمي والإعلامي للحدث، وجدنا زخما هائلا من الإعلام الدولي، وشخصيات أجنبية، تتساءل في دهشة، كيف أن الفساد توغل في كافة المؤسسات الحكومية والعامة بهذه الطريقة، بينما كانت ثورات الربيع العربي وبخاصة مصر، قد اشتعلت احتجاجا على الفساد والمحسوبية، وإهدار ثروات البلد عبر شخصيات رسمية وسياسية، وثيقة الصلة بقيادات الدولة ومن النواب والدائرة الضيقة المحيطة بهم والمستفيدين منها!

تعجبت المستشارة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الشفافية الدولية كندة حتَر قائلة: إن عدم تغيير الحال عما كان عليه قبل ثورات الربيع العربي، هو رسالة بحد ذاته، فهناك قوانين تغيرت وقواعد وضعت، مع ذلك لا يوجد تغيير حقيقي في المنظومة الحاكمة للفساد والثقافة السائدة المحيطة به!
كانت المنظمة قد أجرت تعديلا عام 2012، في معيارها للمحاسبة، يضمن التزام الدول بحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، وتوفير السلع للجمهور بما لا يفوق قدراتهم.
وجدت المنظمة أن الفساد، هو الأوسع عالميا، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي من بينها مصر. لذلك ظلت المنطقة في اللون الأحمر، مع استبعاد الإمارات وقطر فقط بينما ازدادت حمرته، في السودان والعراق والصومال وسورية باعتبارهم الأكثر فسادا.
ألقى التقرير الضوء على الفساد السياسي، الذي رآه مُمَنهَجاً، ويُعيق التقدم، ويُزيد من تفاقم انتهاكات حقوق الانسان، والديمقراطية، حتى في الدول التي حدث بها تغيير في الحكم فقد وعدت بالتغيير دون أن تنفذ ما وعدت به.

وأشار التقرير إلى وجود فاسدين، يرتبطون مع بعضهم بسلسلة واحدة، تعيد إنتاج فاسدين جدد، وكلهم يخشون تقديم أحد الفاسدين للعدالة، وكما تقول كندة حتر: "إن الفساد السياسي الواسع في المنطقة، لا يتعلق بسجن الفاسدين، وإنما هناك خوف من وجود كبش فداء في النهاية".
لقد غابت المساءلة، فها نحن نرى برلمانا يستجوب الحكومة على وقائع فساد في وزارة الصحة، ولم تحاكم وزيرة وما زالت رسميا في إجازة، بينما زوجها السابق ونجلها قد أحيلا للتحقيق في قضية فساد، ضبطت داخل مكتبها الحكومي!
وأحيل أستاذ جامعي للتحقيق بعد مطالبته بإحالة رئيس جامعته للتحقيق في مخالفات مالية، بينما توقف النشر بعد القبض على رئيس جامعة آخر في قضية رشوة، وبعد إحالة لواء مساعد لمحافظ القاهرة، في قضية أكثر خطورة.
هذه الوقائع وأمثالها، أثارت الباحثين، وجعلتهم يتعجبون من سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وتدخلها في أمور القضاء، بما جعل استقلال السلطة القضائية منقوصا في محاسبة الفاسدين.
وتدار الصحافة وهي السلطة الشعبية والإعلام الأكثر قدرة على كشف الفساد وفضحه أمام الرأي العام، من خلف الستار، وتمنع من مناقشة أية قضايا تتعلق بالفساد، ولو كانت الجهات الرقابية الرسمية وراء ضبطها. فاليد الخفية، لا تريد أن يشعر الشعب بحجم الفساد الذي يهدر ماله وطاقته، ولا تتمنى أن يصعد أبطال من المدافعين عن النزاهة والشفافية. فقد أسكتت الصحف ووأدت دور المجتمع المدني، ودجنت الأحزاب وهندست البرلمان، بما يجعل الجميع تحت قبضتها الغاشمة، ويمنع الحقيقة عن المواطنين.
المؤسسات الحكومية والعامة، تُؤمر بصرف مليارات الدولارات، والاقتراض بنهم من البنوك المحلية والدولية، وترسي المناقصات والمزايدات بالأمر.

وعدلت قوانين مهمة مثل قانون "المزايدات والمناقصات" الذي أتاح حرية الإسناد للمناقصات والصرف للمال بضوابط يسهل الخروج عليها، من أي مسؤول لا يتحلى بالانضباط الأخلاقي.

وفي غياب المساءلة، لم يطالب أحد بعودة الأموال المنهوبة في الخارج، التي كانت أحد مطالب الثورة.

وفي غياب الشفافية والمراقبة الشعبية، لا يستطيع المواطن أن يعرف كيف تصرف ميزانية دولته، ولا يشارك في وضع أولويات المال الذي يشارك في صنعه وتحمل تبعاته.
مع غياب قانون "حرية تداول المعلومات" الذي كان مفترضا صدوره خلال الدورة البرلمانية الأولى عام 2014، أصبح الحصول على المعلومات مقيدا ببند "أسرار الدول والأمن القومي".
ساهم غياب المشروع السياسي لثورة يناير، ومعه ثورات الربيع، في ألا يتوقف الفساد عند "الركب" كما كان في النظام السابق، الذي كان ترتيبه 114 عالميا، بل زاد الآن ليبلغ الحناجر، بعد أن استقر لعامين عند المرتبة 117 من بين 180 دولة تخضع للتقييم دوريا. سيزيد الفساد حتما، طالما أصبح للفساد قبول شعبي، مع إدارة سياسية، تنتهك حقوق الإنسان، وتعادي الديمقراطية.

المساهمون