الفائدة على الدولار تقذف الاقتصاد العالمي في عين عاصفة الركود

23 سبتمبر 2022
رئيس الاحتياط الفيدرالي جيروم باول (Getty)
+ الخط -

يواجه الاقتصاد العالمي مجموعة من التحديات الاقتصادية والجيوسياسية خلال العام الجاري تثير القلق لدى العديد من الحكومات وبنوك الاستثمار وكبار المستثمرين حول ما إذا كان العالم سيتمكن من الإفلات من الركود الاقتصادي، أو حتى تفادي الدخول في فترة الكساد العميق أو ما يطلق عليه "الركود التضخمي".

فلم يكد العالم يخرج من تداعيات جائحة كورونا وعمليات الإغلاق للنشاط الاقتصادي والتجاري التي ضربت العالم في العام 2020، حتى تفاجأ بالغزو الروسي لأوكرانيا الذي تسبب في رفع أسعار الغذاء والنفط والغاز الطبيعي ومعظم السلع الرئيسية، وكما رفع من الاضطرابات في أسواق المال العالمية.

وكانت النتيجة توجه البنوك المركزية لمكافحة ارتفاع التضخم الجامح عبر رفع الفائدة المصرفية. ونفذ مجلس الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" 5 عمليات رفع سريع وكبير لسعر الفائدة، خلال العام الحالي كان آخرها رفع الفائدة أمس الأربعاء بنسبة 0.75%. وتبعت معظم البنوك العالمية المسار الأميركي في رفع الفائدة لحماية عملاتها وأسواقها من الانهيار، حيث رفعت الفائدة كل من البنوك المركزية في منطقة الخليج والأردن وسنغافورة وإندونيسيا والنرويج وسويسرا وهونغ كونغ والفيليبين وغيرها.

وحتى الآن أدى الارتفاع السريع في نسبة الفائدة الأميركية إلى مراجعة العديد من المؤسسات الدولية والمصارف الاستثمارية لتوقعاتها للنمو الاقتصادي العالمي والاقتصادات الكبرى. فقد خفض الاحتياط الفيدرالي توقعاته للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة بشكل حاد، مع رفع تقديراته لمعدل البطالة والتضخم.

وتوقع الفيدرالي في تقرير عقب قرار السياسة النقدية الأربعاء، نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2% فقط في العام الجاري، مقابل تقديرات سابقة بنمو 1.7%. كما قلص الفيدرالي رؤيته للنمو الاقتصادي في العامين المقبلين إلى 1.2% و1.7% على الترتيب، مقابل توقعات سابقة بنمو 1.7% و1.9% على التوالي.

البنك الدولي توقع في تقريره الأخير أن يتراجع النمو العالمي من 5.7 في المئة في عام 2021 إلى 2.9 في المئة في عام 2022. وهذا المعدل أقل كثيراً من نسبة 4.1 في المئة الذي توقعه في يناير/كانون الثاني. كما تعرضت العديد من العملات الدولية لتراجع حاد، حيث شمل التراجع خسارة عملات باقتصادات كبرى في منطقة اليورو واليابان وآسيا وأميركا اللاتينية.

وحتى الآن تواصل الحرب في أوكرانيا تعطيل النشاط الاستثماري والتجاري وتضاعف من هروب الثروات من الأسواق الناشئة، ويتراجع تبعاً لذلك الدخل الحقيقي في الاقتصادات الكبرى بأوروبا وأميركا واليابان ودول النمور الآسيوية، وبالتالي تتراجع القوة الشرائية للأفراد وقدرة الشركات على النمو والمساهمة في إنعاش الاقتصاد. وهذه العوامل تمنح مؤشرات على أن العالم يتجه بسرعة نحو الركود الاقتصادي إن لم يكن خلال العام الجاري ففي العام القادم.

على صعيد الاقتصاد الأميركي الذي يبلغ حجمه 23 تريليون دولار ويقود الاقتصاد العالمي، فإن استمرار مجلس الاحتياط الفيدرالي في زيادات الفائدة على الدولار لتهدئة التضخم سيدفع الاقتصاد إلى الركود.

في هذا الصدد قال ريك ريدر، كبير مسؤولي الاستثمار للدخل الثابت العالمي في شركة إدارة الأصول الأميركية "بلاك روك"، إن البنك المركزي الأميركي يواجه تحدي التضخم المتفاقم. ويضيف قائلا: السؤال الذي يقلق العالم حالياً هو "إلى أي مدى سيستمر الفيدرالي في رفع الفائدة ومتى ستتم السيطرة على التضخم".

وهذا الأمر ينعكس بشكل مباشر على مؤشرات أسواق المال في أميركا وعلى إنفاق المواطنين أو القوة الشرائية الأميركية التي تقدر بأكثر من 18 تريليون دولار، حسب بيانات أميركية.

ولدى الاحتياط الفيدرالي تفويض بتبني سياسات نقدية تستهدف خفض التضخم لدى معدلات دنيا وزيادة معدل التوظيف إلى معدلات قصوى. ولكن هنالك قلق حول ما إذا كانت الزيادات في الفائدة كافية لانخفاض التضخم الذي لا يزال مرتفعاً ويبلغ 8.3% حسب البيانات الرسمية الأميركية.

في هذا الشأن أبدى رؤساء البنوك المركزية في الولايات المتحدة قلقهم مساء الأربعاء في إفاداتهم أمام الكونغرس، من مستقبل الاقتصاد الأميركي وحذروا من مخاطر تزامن التضخم المرتفع مع الفائدة المرتفعة على النمو في الاقتصاد. وعادة ما يقود التضخم المرتفع وتباطؤ النمو الاقتصادي إلى "الركود التضخمي" أو الكساد الاقتصادي.

وقال الرئيس التنفيذي لمصرف "جي بي مورغان"، جيم دايمون في إفادته أمام الكونغرس: "بسبب الحرب في أوكرانيا وعدم اليقين الذي يتسبب في إمدادات الطاقة العالمية والإمدادات الغذائية، هناك احتمال أن يكون الاقتصاد أسوأ".

ومن بين علامات مقلقة على ركود الاقتصاد الأميركي الانكماش الذي شهده في ربعين متتاليين وهما الربع الأول والثاني من العام الجاري، كما واصل سوق الإسكان في الولايات المتحدة التراجع للشهر السابع على التوالي حتى أغسطس/آب الماضي، وهذه أطول فترة من التباطؤ المتواصل لسوق الإسكان الأميركي منذ العام 2007 الذي شهد بداية أزمة المال العالمية، حيث أدى ارتفاع الفائدة المتواصل الكبير والسريع إلى ارتفاع الفائدة على القروض العقارية، وبالتالي تراجع الطلب من قبل المشترين.

في هذا الشأن، يقول اقتصاديون إن مبيعات المنازل تتجه لمزيد من التراجع في الأشهر المقبلة. وتجاوزت نسبة القروض العقارية نسبة معدلات 6% للمرة الأولى منذ عام 2008، عندما كانت الولايات المتحدة في حالة ركود.

في هذا الصدد، قال كبير الاقتصاديين في شركة الوساطة العقارية "ريد فن كورب" داريل فيروذر لصحيفة "وول ستريت جورنال"، "طالما ظلت معدلات الرهن العقاري مرتفعة، ستظل المبيعات منخفضة". وسوق العقارات الأميركية تحرك النشاط التجاري والاستثماري في العديد من القطاعات مثل الأثاث والأجهزة الكهربائية.

على الصعيد الأوروبي الذي تترنح اقتصاداته تحت تداعيات الحرب في أوكرانيا،ترتفع أسعار الطاقة والغذاء ويواصل التضخم ارتفاعه إلى 8.3% لأول مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي منذ تكوينه.

في هذا الصدد  يقول الاقتصادي الأميركي كينيث روغوف الاستاذ بجامعة هارفارد، إن تكامل منطقة اليورو يتعرض لاختبار مؤلم" إذا واصلت أسعار الفائدة الحقيقية العالمية الارتفاع".

وتعاني ألمانيا من الغلاء وارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له في 70 عاماً. وكانت ألمانيا في العادة الماكينة التي تقود الاقتصاد الأوروبي ولكن ضغوط الحرب الأوكرانية غيرت مشهد الاقتصاد الألماني.

ويرى البروفسور روغوف أن هنالك مخاوف حقيقية في أوروبا من أزمة الديون الإيطالية والهروب المتواصل للمستثمرين من سوق الدين الأوروبي إلى السوق الأميركي. وحسب بيانات أميركية رسمية فإن أكثر من 370 مليار دولار هربت من السوق الأوروبي إلى أميركا خلال النصف الأول من العام.

وفي بريطانيا يرى تحليل بمجلة فورتشن الأميركية أن الاقتصاد البريطاني دخل بالفعل مرحلة الركود. ووفقاً لمجموعة الضغط البريطانية فإن بنك إنكلترا، البنك المركزي البريطاني، يتجه لزيادة الفائدة بمعدل أكبر على أمل زيادة الثقة من المستثمرين الذين دفعوا الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته منذ عام 1985.

وفي طوكيو انخفض الين إلى أدنى مستوى له خلال ربع قرن وتواصل هروب رأس المال من بلاد "الشمس المشرقة" إلى الولايات المتحدة، وخسرت العملة اليابانية نحو 30% من قيمتها أمام الدولار وربما تخسر موقعها كـ"عملة ملاذ آمن في آسيا".

على صعيد التجارة العالمية والأسواق الناشئة يرى خبراء أن الدولار القوي سيضرب التجارة العالمية، إذ إن الدولار يهيمن على أكثر من 40% من التسويات التجارية في العالم. وبالتالي فإن ارتفاعه سيتسبب في متاعب للاقتصادات الناشئة والدول ذات الدخل المنخفض والتجارة.

ويرى الاقتصادي بالبنك الدولي ماسيلو دستافو، أن الشركات العاملة في الاقتصادات غير الدولارية تحتاج للعملة الأميركية لشراء السلع الأساسية مثل النفط والغذاء التي يتم شراؤها وبيعها بالدولار.

كما يشير ديستافو إلى أن العديد من الاقتصادات النامية هي من يتحمل الأسعار التي ترتفع بفعل الدولار، وبالتالي يمكن أن تقود الفائدة على الدولار إلى انكماش كبير في النمو الاقتصادي. ولا يستبعد خبراء أن تتفاقم أزمة الديون بدول العالم بسبب ارتفاع الفائدة على الدولار وتواجه أزمات تمويل بسبب هروب الدولارات.

وحسب معهد التمويل الدولي في واشنطن فإن نحو 30.1 مليار دولار هربت من الأسواق الناشئة في الربع الثاني من العام الجاري. ويضيف أن مشتريات السندات السيادية لدول الاقتصادات الناشئة تراجعت بنسبة 15%.

المساهمون