ما إن اطمأن المسؤولون في مصر، خلال الأعوام الأخيرة، إلى استسلام الشارع للإجراءات المتعاقبة الرامية إلى التخلص من دعم السلع ورفع أسعار كل شيء، حتى أطلت أزمة خارجية، ربما تدفع الحكومة لإعادة الكثير من الحسابات تجنباً لانفلات غير محسوب على صعيد الأسعار، وكذلك ردود الفعل الشعبية.
ويتوقع محللون انعكاس أزمة الغذاء العالمية، والتي بدأت بوادرها في الظهور على الحالة الاقتصادية المصرية بشكل عام، لا سيما أنّ البلد يستورد حوالي 60% من احتياجاته الغذائية، والتي تصل قيمتها إلى حوالي 15 مليار دولار، وفق البيانات الرسمية.
وتستورد مصر نحو 47.8% من احتياجاتها من اللحوم وكميات كبيرة من زيوت الطعام، ولعلّ واردات القمح الأكثر حضوراً، إذ توقع تقرير حديث لوزارة الزراعة الأميركية أن تصل واردات مصر من القمح والدقيق في العام المالي الحالي 2020/ 2021 (ينقضي بنهاية يونيو/حزيران الجاري) إلى 13 مليون طن، مقابل 12.8 مليون طن العام المالي الماضي.
ورجح التقرير أن يرتفع استهلاك القمح إلى 20.8 مليون طن، مقابل 20.3 مليون طن العام الماضي. ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الحكومي، استوردت مصر قمحاً خلال 2020، تخطت قيمته 2.5 مليار دولار، وذرة بحوالي ملياري دولار، وفول صويا بنحو 1.5 مليار دولار.
يقول مستشار وزير التموين الأسبق عبد التواب بركات إنّ زيادة الأسعار العالمية للأغذية لها تداعيات مباشرة على الموازنة العامة للدولة وتأثيرات مؤلمة على المواطن، ذلك أن مصر تستورد أغذية بالعملة الصعبة من السوق الدولية، منها 13 مليون طن من القمح الذي يدخل في صناعة الخبز التمويني والمكرونة، بالإضافة إلى 10 ملايين طن من الذرة الصفراء التي تدخل في مكونات علف الدواجن بمعدل 60% من التكلفة، وقرابة 6 ملايين طن من زيوت الطعام، وقرابة نصف الاستهلاك من اللحوم الحمراء، وهو ما يقارب نصف مليون طن.
ويضيف بركات: "زادت أسعار هذه المنتجات بنسبة تتراوح بين 40% و90% عن مثيلتها في هذا التوقيت من العام الماضي بسبب جائحة كورونا، منها زيادة أسعار الذرة الصفراء في السوق الدولية بنسبة 90% عن العام الماضي، ومعها زادت أسعار الأعلاف للضعف، ما أدى إلى زيادة أسعار اللحوم الحمراء بنسبة 20% تقريباً، وكذلك زادت أسعار الدواجن التي تمثل بروتين الفقراء بنسبة أعلى، وكذلك بيض المائدة".
ويتابع: "زادت أيضاً أسعار زيت الطعام التمويني والحر بنسبة وصلت إلى 25%، ما يمثل تآكلاً لقيمة الدعم النقدي البالغ 50 جنيهاً للفرد (3.1 دولارات) وعبئاً على موازنة الغذاء للأسر المصرية التي سقط 60% منها تحت خط الفقر".
ومن المتوقع أن تزيد معاناة المصريين في ظل امتناع الحكومة عن تقديم الدعم وتوفير الحماية الاجتماعية، الأمر الذي قد يؤدي إلى اندلاع احتجاجات شعبية، على غرار ما وقع عامي 2008 و2011.
لبنان والسودان على حافة الانهيار
ويقترب لبنان من انفجار شعبي بسبب انهيار الوضع المعيشي الناجم عن تحكم سعر الدولار المنفلت في مختلف مناحي الحياة، بينما يعاني البلد من انهيار اقتصادي ومالي. ويستمر المسار التصاعدي للأسعار في الوقت الذي تجاوز فيه سعر الدولار 15 ألف ليرة، بينما كان يجرى تداول العملة اللبنانية بحرية في البنوك والمتاجر وأماكن أخرى عند 1500 ليرة مقابل الدولار، قبل أن تضرب الاقتصاد أزمة ديون في أواخر عام 2019. وأسقطت الأزمة شريحة واسعة من المواطنين في براثن الفقر والبطالة.
وبينما يخشى العديد من الدول العربية، هذه الأيام، المساس بدعم السلع تجنباً للغضب الشعبي، أقدم السودان على طريق معاكس بإعلانه، الأسبوع الماضي، تحرير أسعار البنزين والديزل بالكامل ورفع أسعارهما للضعف، ما تسبب في صعود فوري لأسعار العديد من المنتجات التي تشهد بالأساس صعوداً بسبب الزيادات العالمية وارتهان السوق لسعر الدولار.
ويطبق السودان ما يصفه بالإصلاحات الاقتصادية استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، على أمل إنعاش اقتصاده والحصول على إعفاء من الديون واجتذاب التمويل. لكنّ الإصلاحات مؤلمة للبلد الذي يعاني أغلب سكانه تردياً معيشياً، إذ ارتفع معدل التضخم السنوي إلى 363% في إبريل/ نيسان الماضي.
ومساء الأربعاء الماضي، أقر وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم، في مؤتمر صحافي، بأنّ سياسات تحرير الأسعار "سيعاني منها المواطن كثيراً وسيمرّ بجراحات مؤلمة جداً وستكون عميقة وشديدة، بينما لا علاج إلاّ عبر استئصال المرض"، على حدّ وصفه.
تردٍّ معيشي في العراق وسورية واليمن
وفي العراق، حذّر برلمانيون من غياب التخطيط الحكومي لمواجهة موجات الغلاء الجديدة التي بدأت تتشكل، بينما تعاني البلاد بالأساس من تبعات تراجع قيمة الدينار أمام الدولار وتردي الوضع المعيشي.
يقول عضو لجنة الزراعة البرلمانية علي البديري لـ"العربي الجديد" : "لا توجد للأسف أيّ خطط لتدارك مخاطر ارتفاع الأسعار العالمية، رغم أنّ العراق يعتمد بشكل كبير على الاستيراد في الحصول على الغذاء". ويضيف: "العراق سيكون حتماً في صلب الأزمة، فالاكتفاء الذاتي الزراعي والإنتاج المحلي محاربان، وهو ما يحول دون تحقيق الأمن الغذائي".
ووفقاً لآخر إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، فإنّ أكثر من 20% من العراقيين يقبعون تحت خط الفقر، فيما بلغت نسبة البطالة نهاية عام 2020 نحو 40%، بينما يشكك خبراء اقتصاد في هذه الأرقام، مشيرين إلى أنّ النسبة الحقيقية أكبر بكثير مما تعلنه الحكومة.
وفي سورية، يواجه المواطنون أزمات تتزايد حدة يوماً بعد يوم. وفيما ترتفع نسب التضخم إلى مستويات قياسية، وفي الوقت الذي تشهد فيه الليرة انهيارات متلاحقة أمام الدولار الأميركي، لا تكفي مداخيل الأسر الزهيدة لشراء حتى الحاجيات الأساسية لأفرادها. ويتوقع رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية أسامة القاضي أن تزداد معاناة السوريين المعيشية خلال الفترة المقبلة.
وبالنسبة لليمن الذي يعاني أغلب سكانه من الفقر، تشهد الأسواق موجة جديدة من غلاء الغذاء تشمل بشكل رئيسي الدقيق والقمح، بسبب صعود الأسعار عالمياً، ما ينذر بتبعات أكثر كارثية للبلد الذي تمزقه الحرب منذ أكثر من ست سنوات.
وقفزت أسعار المواد الغذائية بشكل متفاوت بين المناطق خلال الأسبوعين الماضيين، وفق تجار، إذ زاد سعر الدقيق عبوة 25 كيلوغراماً من 7200 ريال إلى 8 آلاف ريال في صنعاء ومناطق شمال اليمن، بينما وصل سعر نفس العبوة في عدن ومناطق في جنوب البلاد إلى ما يقارب 10 آلاف ريال.
ويقول أحمد حسن، مسؤول إدارة الإعلام والتواصل في غرفة أمانة العاصمة صنعاء المركزية التجارية والصناعية، إنّ اليمن يعتمد على السوق الدولية في استيراد الغذاء، وبالتالي، ما نشهده من اضطرابات وارتفاعات ينعكس على الأسواق المحلية.
ويعتمد اليمن على الاستيراد بنسبة تصل إلى 90% لتغطية احتياجاته الأساسية، وسط توقعات بأن يشهد العام الجاري نقصاً كبيراً في السلع المستوردة. وتأتي واردات الغذاء، مثل القمح، في المرتبة الأولى بين أهم 30 سلعة مستوردة. وتسببت الحرب في الأساس بانهيار العملة وارتفاع نسبة الفقر بين السكان إلى 70%، بينما تتزايد التحذيرات الدولية من مجاعة وسط هذا الانهيار المعيشي.