العريان يحذر العالم

02 مارس 2022
قلق في وول ستريت من تداعيات غزو أوكرانيا (Getty)
+ الخط -

قبيل نهاية الربع الأول من عام 2020، وبينما كان فيروس كوفيد-19 يمضي في طريقه إلى الأراضي الأميركية، ليبدأ بعدها في حصد مئات الأرواح بصفة يومية، وتمتلئ المستشفيات بالآلاف من المرضى، تهاوت أسواق الأسهم والسندات الأميركية، فشمر جيرومي باول، المحامي الذي كان يترأس مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) وقتها وحتى الآن، عن ساعديه، وأعلن بدء أكبر تدخل لأكبر بنك مركزي في العالم في الأسواق المالية.

لم ينتظر باول موعد اجتماعات البنك المركزي المقرر بعد ثلاثة أيام، وأعلن مساء يوم الأحد الخامس عشر من مارس / آذار، في خطوة غير مسبوقة، تخفيض معدل الفائدة على أموال البنك من نطاق 1% - 1.25% إلى نطاق 0% - 1%، مع إطلاق برنامج ضخم للتيسير الكمي، يقوم البنك من خلاله بشراء ما تصل قيمتها إلى سبعمائة مليار دولار من سندات الخزانة وسندات الرهن العقاري.

وقتها سيطر التشاؤم على أغلب المحللين الاقتصادين، حتى إن الاقتصادي المصري الأميركي الشهير محمد العريان حذّر من انهيار مؤكد لأسواق المال، ربما يفوق ما شهدناه خلال الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009، متوقعا عدم تعافي الأسواق قبل عام إلى عام ونصف.

لكن لحسن الحظ، لم يستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أسابيع، بدأت بعدها أسعار الأسهم والسندات في التعافي، لتستعيد كل ما خسرته خلال أشهرٍ قليلة، ولتبدأ بعدها واحدة من أفضل فتراتها على الإطلاق، شهدت تحقيق أكثر من مائة مستوى إغلاق قياسي لمؤشراتها الرئيسية، كما تسجيل مستويات قياسية لمئات الأسهم والصناديق المتداولة في البورصة.

وفي مقال نشره على موقع وكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية تحت عنوان "الأسواق والاقتصاد العالمي لا يمكنهم الإفلات من الحرب في أوكرانيا"، وبعد اقتحام القوات الروسية للأراضي الأوكرانية الأسبوع الماضي، وفرض العقوبات الاقتصادية الضخمة على موسكو ومؤسساتها ورجال الأعمال المرتبطين بها، عاود العريان التصريح بتشاؤمه في أحد مقالاته على بلومبيرغ، مذكراً الجميع بأن شعباً كان ينعم بالحياة الهادئة قبل أيام، أصبح أفراده اليوم ما بين لاجئ على حدود دولة أخرى، ومغامر بحياته إن تمسك بالبقاء، بينما يتعرض بلده لهجمات عسكرية مكثفة تهدف لاحتلال أرضه.

ومع توقعه ألا تنتهي تلك المأساة قريباً، أكد العريان أن منع البنوك الروسية من استخدام نظام التحويلات الدولي "سويفت"، وفرض العقوبات على البنك المركزي الروسي بشكل شامل، يمكنهما شل الاقتصاد الروسي، إلا أنه أشار أيضاً إلى وجود تداعيات Spillovers، وانسكابات Spillbacks، ويقصد بها تأثيرات عكسية غير مقصودة، لتلك الإجراءات، مما يمكن أن يؤثر بصورة سلبية على الاقتصاد العالمي وأنظمة الدفع الخاصة به.

أكد العريان أن التصعيد في العقوبات الاقتصادية سيكون له العديد من الأضرار الجانبية التي تتحملها الدول الأخرى، بخلاف روسيا التي سيقع عليها الضرر الأكبر بالتأكيد. وعدد العريان تلك الأضرار، بداية من تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد العالمي، وارتفاع معدل التضخم في كافة أنحاء العالم، مروراً بتعثر الشركات العاملة في روسيا، وتعرض حاملي السندات الروسية لخسائر ضخمة، وحتى تعثر سلاسل الإمداد للشركات والحكومات التي تعتمد على وارداتها من روسيا.

أشار العريان أيضاً إلى أن منع البنك المركزي والبنوك الروسية الأخرى من استخدام نظام سويفت سيدفع روسيا، كما بعض الدول الأخرى، إلى العمل على إيجاد نظام بديل له، وهو ما سيعطي دفعة قوية للجهود التي بدأت قبل سنوات، مدعومة برغبة واضحة في إيجاد بديل للنظام الذي تسيطر عليه الدول الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى وإن كان النجاح في تحقيق ذلك الهدف ما زال محدوداً.

ومع تأكيده أن ظهور التأثير على الاقتصاد العالمي وعلى تعثر الدائنين أو التزامهم، يحتاج لبعض الوقت، حذر العريان الجميع من تصور أن الحياة تسير بصورة طبيعية في المناطق البعيدة عن النزاع، موضحاً أن هذه الصورة لن تستمر في حالة استمرار التصعيد بين روسيا والغرب.

وأعرب العريان عن دهشته من ارتفاع أسواق الأسهم الأميركية والأوروبية مع نهاية الأسبوع الماضي، وتراجع سعر النفط إلى ما دون المائة دولار للبرميل، وتعويض سندات الحكومة في الأسواق الناشئة خسائرها، متسائلاً إذا ما كان المستثمرون والمتعاملون في تلك الأسواق يدركون حقيقة ما يحدث في أوكرانيا.

ومع تسليمه بوجود أسباب تسمح ربما بارتفاع الأسواق على المدى القصير، مثل تراجع التقييمات بصورة واضحة خلال الأسابيع الأخيرة، واضطرار بنك الاحتياط الفيدرالي لتخفيف حدة وسرعة رفع معدلات الفائدة على أمواله، ومحاولة البعض انتهاز فرصة الشراء مع انخفاض أسعار الأسهم، إلا أن رؤيته كانت تشير بوضوح إلى عدم إمكانية استقرار الأسواق لو ازداد الوضع سوءاً في أوكرانيا، أو تمكنت العقوبات الغربية من شل الاقتصاد الروسي تماماً، أو ارتفعت معدلات الإفلاس وإعادة الهيكلة لدى الشركات، أو لم يتم احتواء الانعكاسات المالية السلبية على بقية دول العالم.

وأكد العريان أن حدوث أي من تلك المحاذير الأربعة يفرض على العالم الانتباه، مستعيناً بمقولة رئيسة الوزراء الاسكتلندية نيكولا ستيرجون وقت احتدام أزمة انتشار الفيروس في العالم، التي قالت فيها "لو كانت حياتك ما زالت تبدو طبيعية، اسأل نفسك إذا كنت تفعل الأشياء الصحيحة".

بالتأكيد لا يخلو كلام العريان من منطق، ولو كان تشاؤمه مبالغاً فيه وقت الجائحة، فلا يمكن لعاقل أن يتجاهل تحذيراته الآن، لكن ما ندركه بقدر كبير من الثقة أن تكبيل الاقتصاد الروسي المنعزل أصلاً لن يكون له تأثير كبير على ابتكارات شركات مثل آبل ومايكروسوفت وغوغل، ولا على مبيعات أمازون ونتفليكس وتسلا، ولا على أرباح شركات التكنولوجيا الجديدة ومنتجات المستهلكين التي انتعشت خلال عامي الجائحة، طالما لم تكن هناك مواجهات عسكرية مباشرة بين القوات الروسية وقوات حلف الناتو.

وبخلاف ذلك، يؤكد التاريخ قدرة الشركات الأميركية على انتهاز الفرص في أوقات الأزمات لتحقيق المزيد من الأرباح، وربما ترافقها الشركات الصينية في تلك الرحلة هذه المرة.

المساهمون