أثار الصحافي الأميركي الشهير من أصول هندية فريد زكريا كثيراً من ردود الفعل المفاجأة من المعلومات، التي قدمها في مقاله في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ السادس عشر من شهر يونيو/ حزيران والموسوم "الخليج الفارسي يعيد تشكيل العالم".
وقدم زكريا في تلك المقالة معلومات عن ارتفاع قوة الدول العربية الخليجية وبخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الامارات. وأكد أن هذه الدول بدأت تأخذ المبادرات الخاصة بها سواء في استثماراتها أم في علاقاتها الدولية حسب مصالحها، مشيراً إلى استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي السعودي. وكذلك الحال وبدرجة أقل في دولة الامارات وكل من قطر والكويت.
الصين هي أكبر مستورد للنفط، وفي المقابل، تقوم بتصدير السلع والتكنولوجيا إلى دول الخليج بما في ذلك الاستثمار والخدمات
ولكن هذه الدول لا تسعى لكي تخسر أياً من الأطراف القوية في العالم. ونظراً لكبر الأموال المتاحة لديها حتى العام 2030 ولحجم الاستثمارات الهائلة القادمة إليها، فإنها تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي.
ومن الواضح أن بعض الدول لا تحبذ ذلك. ولعل من المفيد أن نتوسع قليلاً في الحديث عن التجارة. لقد بدا واضحاً أن حجم التبادل التجاري بين دول الخليج والصين صار أكبر من مجموع التبادل التجاري لهذه الدول مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وقريباً ستصل إلى ضعف ذلك.
فالصين هي أكبر مستورد للنفط، وفي المقابل، تقوم بتصدير السلع والتكنولوجيا إلى دول الخليج بما في ذلك الاستثمار والخدمات. وقد قامت دول الخليج بشراء الكثير من المرافق الفندقية والمحال التجارية الفخمة في أوروبا خاصة.
ولقد سبق أن استفادت كثير من الشركات التجارية الأميركية والأوروبية صاحبة العلامات التجارية الشهيرة من شراء بضائع صينية رخيصة وإعادة بيعها تحت علامة أو اسم تجاري شهير، محققة عشرات المليارات من الدولارات من الفرق في الأسعار.
يبدو أن هذا الدور قد بدأت دول الخليج في اختطافه، وتَلاقى هذا الأمر مع الرغبة الصينية في أن تطور لنفسها علامات تجارية، ولا مانع من تسويق بعضها في أوروبا والولايات المتحدة عبر المرافق التجارية التي يشتريها عرب الخليج هناك.
ولو أضفنا إلى هذا كلاً من الموانئ ومرافق الشحن التي تتولى شركات خليجية السيطرة عليها، وكذلك لو أخذنا الطفرة في مجال المسابقات الرياضية التي بدأت تُحدث الأمر الإيجابي المطلوب من خلال مسابقة كأس العالم في دولة قطر العام الماضي، وأضفنا النجاح في استقطاب رياضة الغولف بالسعودية ودول خليجية أخرى، وما يثار حول هذا الموضوع من نكد سياسي ومحاولات للحيلولة دون ذلك داخل الكونغرس الأميركي، وأضفنا كذلك سباق السيارات فورمولا واحد، وسباقات الخيول، وكرة القدم وشراء الأندية واستقطاب اللاعبين الدوليين، فإن هذا كله فتح الباب على مصراعيه لسيطرة عربية غير مرغوبة في الغرب على اقتصاد السباقات والمنافسات الرياضية في العالم كله.
الدول المجاورة للعالم العربي تدرك، وأحياناً أكثر مما يدركه العرب أنفسهم على المستوى العام، أهمية اقتصادها وموقعها للعالم كله
ولا ننسى أيضاً رياضة التنس وما تحقق فيها من نجاح خليجي، وقريباً يمكن أن نشير إلى رياضة الهوكي الشائعة في آسيا، ورياضة سباق الدراجات ورالي السيارات وغيرها.
وفي هذا الصدد، فإن حجم سوق المنافسات الرياضية العالمي قد نما من 487 مليار دولار عام 2022 إلى ما يقدر بـ 512 مليار دولار هذا العام 2023. وبالطبع، فإن هذا لا يدخل في حساباته الكثير من الأموال المخصصة للمضاربات والرهانات على نتائج المباريات، والتي قد تصل عالمياً إلى ضعف الأرقام المذكورة أعلاه. والعرب قادرون على دخول هذا المجال، وقدروا.
في المقابل، فإن الدول المجاورة للعالم العربي تدرك، وأحياناً أكثر مما يدركه العرب أنفسهم على المستوى العام، أهمية اقتصادها وموقعها للعالم كله. ومن الجدير مراقبة ما يجري من تحركات سياسية في الوقت الراهن.
لقد فوجئ كثير من المنجمين السياسيين بفوز رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية في تركيا، وبفوز حزب العدالة والتنمية بغالبية المقاعد في البرلمان التركي. ومن أول قرارته أنه تنازل عن سياساته المالية والنقدية التي كانت تعمق العجز في الموازنة العامة وتزيد من نسب التضخم.
وهذا ما حصل في السياسة النقدية التي اتبعها حين خفض سعر الفائدة قبل الانتخابات، ما خلق ضغوطاً تضخمية إضافية بفضل الاتجاهات الخاصة في السياستين المالية والنقدية. وحينها ارتفعت نسبة التضخم بشكل كبير حتى وصلت إلى 80% على أساس سنوي في نهاية العام المنصرم 2022.
لكن الرئيس التركي أعاد الوزير من أصول كردية والمقرب إليه محمد شيمشك Mehmet Simsek وزيراً للمالية بعدما انقلب عليه عام 2018. وعين محافظة للبنك المركزي التركي حفيظه غاي أركان Hafize Gaye Erkan، التي قامت فوراً برفع سعر الفائدة من 8.5% إلى 15%. ومن المتوقع أن تعيد رفع هذا السعر مستقبلاً إلى ما كان عليه عام 2022، وهو 19%.
علاقات ايران مع الخليج ستشهد تحسناً ملحوظاً. وهذا ما يبدو أن السياسة الإيرانية تدركه، وأكدت ذلك بالجولة التي قام بها إبراهيم رئيسي في دول جواره الخليجية
مع هذا التغير في السياسة الاقتصادية التركية، حصل تطور في سياستها الخارجية. وسوف تفتح علاقات مع الدول العربية وبخاصة مصر. ولكن هذا لن يمنع الرئيس أردوغان من إعادة العلاقات مع دول الخليج بشكل أساسي، وهي بالمقابل ستفتح له الباب، خاصة إذا استقرت سياساته المالية والنقدية ولقيت قبولاً لدى صندوق النقد والبنك الدوليين.
أما إيران، فقد تحرك رئيسها وقياديوها للمصالحة مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وقد فتحت السفارتان، وأزيلت كثير من القيود على حركة السفر خاصة في موسم الحج الحالي. وإذا تمكنت ايران من النجاح في مفاوضاتها النووية مع الولايات المتحدة (بشكل غير مباشر) ومع الاتحاد الأوروبي (بشكل مباشر) ومع وكالة الطاقة النووية، فإن علاقات ايران مع دول الخليج سوف تشهد تحسناً ملحوظاً. وهذا ما يبدو أن السياسة الإيرانية تدركه، وأكدت ذلك بالجولة التي قام بها رئيس الجمهورية الإسلامية إبراهيم رئيسي في دول جواره الخليجية.
بقي من الجيران، وبشكل خاص بعض الدول الإسلامية، بخاصة باكستان والهند من ناحية، والدول الأفريقية من ناحية أخرى.
أما من ناحية باكستان فيجب على العرب، وبخاصة سكان الجزيرة العربية، أن يدركوا أنّ دولة باكستان صارت أكثر أهمية لهم، لكن الباكستانيين لا يشعرون أن العرب يبادلونهم نفس القدر من الود. وقد التقيت منذ مدة بوفد عسكري باكستاني اشتكى من أن باكستان تقاطع إسرائيل ويدينون مواقف حكومتها والمستوطنين المتطرفين فيها، في الوقت الذي تزداد فيه علاقات إسرائيل بالدول العربية من ناحية أخرى، سواء في السر أم في العلن.
وهم كذلك يشتكون من أن العرب رغم كل ما تقوم به حكومة "مودي" وبعض الزعماء والهندوس من تنكيل بالمسلمين وإجراءات معادية في كشمير وبتهديدها المباشر للعرب الخليجيين، فإنّ العلاقات الخليجية الهندية تزداد قوة ولا يزال هذا الجانب بحاجة إلى تأمل.
ولقد اطلعت على كثير من المقالات التي كتبت في بعض الصحف الهندية والتي تنظر إلى أن خلافات الهند مع الولايات المتحدة بدأت بالتراجع في ضوء زيارة الدولة التي قام بها ناريندرا مودي مؤخراً إلى واشنطن وتعزيز العلاقات معها، وما قد ينطوي عليه هذا الأمر من تحديات لدول الخليج.
يجب أن ندرك كعرب أن الثورة التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي تعطي الهند مزايا اقتصادية وسياسية كبيرة في الأسواق الغربية
يجب أن ندرك نحن كعرب جميعاً أن الثورة التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي خاصة تعطي الهند مزايا اقتصادية وسياسية كبيرة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
ويجب أن نتذكر ما حققه الهنود من مكانة سياسية باختيار واحد من أصل هندي ليكون رئيساً لوزراء بريطانيا، وترشيح نيكي هيلي ذات الأصول الهندية لرئاسة الولايات المتحدة العام القادم، ووجود كاميلا هاريس نائبة للرئيس الأميركي جو بايدن، ومرشحة محتملة للرئاسة عن الحزب الديمقراطي إذا حالت الظروف الصحية للرئيس بايدن من إعادة ترشيح نفسه العام المقبل 2024.
أما أفريقيا، فيجب أن نتذكر ما فعلته إسرائيل والغرب حين خلقت حواجز بين الدول العربية في الجزيرة والدول الأفريقية في شرق القارة.
وعلينا أن نتذكر أن الخط الممتد من الصومال شرقاً إلى موريتانيا غرباً خلق مشكلات بين السودان، وإثيوبيا، وليبيا، وتشاد، وموريتانيا، والسنغال.
هذا الحزام الناري يمكن أن يتحول إلى منطقة ملتهبة تقض مضاجع الدول العربية الخليجية والدول العربية الأفريقية.
زيارة مودي قبل الولايات المتحدة إلى مصر تنطوي على ذكاء سياسي، وهكذا يصبح السعي لإصلاح ذات البين بين السعودية والإمارات، والسعودية والأردن، والسير نحو الوصول إلى تفاهم واضح مع مصر، ووضع مخطط لإنقاذ لبنان واليمن، وليبيا، وسورية والعراق، جزءاً من الاستراتيجية العاقلة الجديدة للدول العربية. ولا يجوز أن نصلح علاقاتنا مع إسرائيل أو إيران، ونترك باب الصراع مع باقي الدول العربية مفتوحاً على كلّ الاحتمالات.
وفي رأيي أنّ الموقف السعودي الصارم والواضح من إسرائيل أو التطبيع معها رغم الضغوط يجب أن يبقى مرجعاً لكلّ دول الخليج. ويجب أن نثني على محاولات السعودية وقطر لإصلاح ذات البين في السودان، ولملمة الأمور في أفغانستان، وإطلاق القدرات الإعمارية والاستثمارية في العراق وسورية ولبنان. هذه كلها ستكون إضافات نوعية لمستقبل الوطن العربي واستقراره ورخائه.