قدم البنك الدولي والاتحاد الأوروبي 12.5 مليون دولار للعراق كمنحة لتعزيز مؤسسات الرقابة والمساءلة في الإدارة المالية العامة، ووقعت الحكومة العراقية اتفاقية بهذا الشأن مع المؤسستين أواخر يناير/كانون الثاني 2021، وتأتي المنحة في إطار برنامج ممتد مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 2018. كما تعد الاتفاقية استكمالًا لبرنامج آخر ينفذه البنك الدولي في العراق، بنحو 41.5 مليون دولار، ويحمل اسم "تحديث أنظمة الإدارة المالية العامة"، ويهدف إلى تحسين إدارة المعلومات المالية والشفافية، وإدارة النقد، وإدارة الاستثمار العام، وتحديث المشتريات العامة. لكن بمراجعة مستهدفات اتفاقية يناير 2021، وجدنا أنها تهدف لتعزيز إدارة كشوف الرواتب من خلال منصة لتكنولوجيا المعلومات، ودعم المساءلة والشفافية في قطاع النفط، وتعزيز مكافحة الفساد من أجل استرداد الأصول المسروقة، ودعم إصلاح الشركات العامة، وتعزيز النزاهة في برامج إعادة الإعمار.
وتعكس هذه الأهداف، حالة الفساد المستشري في العراق، فما من أمر وشأن عام، إلا ويدب فيه الفساد، ولم تكن مؤسسات البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، لتقدم دعمها الفني، والذي يكلفها هذه الأموال، إلا بعد الوقوف على مكامن الفساد في إدارة الدولة العراقية. فكشوف الرواتب في المؤسسات العامة، قد تضم أناسا لا يعملون، أو يعملون في إطار ما يعرف بالبطالة المقنعة، أو يحصلون على رواتب من أكثر من جهة، أو يحصلون على رواتب لا تخضع لمعايير المؤهلات والخبرات، كما أن الوظائف بالمؤسسات الحكومية، نالها ما نال باقي مؤسسات المجتمع السياسية وغيرها، من حيث المحاصصة، وهو أمر يضر بالاقتصاد القومي، وكانت النتيجة، أن البلد النفطي، والذي عاش عبر سنوات طويلة، تتوفر له سبل المعيشة الكريمة، أصبح يعاني من ارتفاع معدلات الفقر، ونقص الإمكانيات في ظل جائحة فيروس كورونا، بسبب الفساد.
لا شك أن تقديم المنح الفنية من قبل المؤسسات الدولية أو الاتحاد الأوروبي أمر إيجابي، خاصة لبلد مثل العراق، يعاني ويلات الحروب منذ عام 1979، ولكن ماذا تعني المنح الفنية في بلد يعج بالفساد، وغياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد، بل الأدهى أن الفساد في الإدارة الحكومية أحد أدوات الطوائف السياسية لإدارة الحكم، وتواجدها في السلطة؟
الملاحظ من خلال بيانات مؤشر مدركات الفساد الخاصة بمنظمة الشفافية الدولية، أن العراق تحسن في ترتيبه من بين دول العالم التي يشملها المؤشر والتي تبلغ 180 دولة، ففي عام 2018 كان ترتيب العراق 168، وفي عام 2019 تحسن الترتيب إلى 162، وفي عام 2020، أتى الترتيب 160. لكن هذا الترتيب بين الدول، لم يصاحبه تحسن على درجات المؤشر بالشكل المطلوب، فلا يزال العراق يحصل على درجات متدنية على سلم المؤشر، ففي خلال الفترة من 2018 - 2020، كانت درجات العراق (18، و20، و21) على التوالي من مجموع درجات المؤشر البالغة 100 درجة، وهو ما يعني أن أعمال برامج تعزيز الشفافية المالية تحقق نتائج ضعيفة جدًا.
حاجة العراق للدعم الفني
العراق تنقصه الجوانب الفنية والتكنولوجية، لتنفيذ منظومة لإحكام عمليات الصرف والنفقات العامة، ولكن لا ينقصه المال، الذي يمكن من خلاله أن يحصل على تلك النظم التكنولوجية والإدارية لضبط العمل بمؤسسات الدولة، كما أن العراق لديه من الكوادر البشرية التي يمكنها على الأقل إدارة تلك النظم والتدريب عليها، ما لم يكن تصميم تلك النظم التكنولوجية، أو على الأقل تصميم نظم قريبة منها.
وحاجة العراق للدعم الفني، قد لا تكون قاصرة فقط على مكافحة الفساد، والسعي لتحسين مؤسسات الإدارة العامة، ولكن العراق يحتاج إلى نهضة تكنولوجية، تعمل على تقوية مقدراته في المجالات المختلفة في الصناعة والزراعة والتعليم والصحة.
وقد يكون الدعم من قبل البنك الدول والاتحاد الأوروبي في مجال ما، عديم الفائدة في ظل النظام السياسي السائد في العراق، وفي ظل ثقافة الصراع الدائر هناك على أساس طائفي، أو في ظل وجود هذا التدخل الإقليمي والدولي في شؤون البلاد.
فقد تقدم برامج المنح والمساعدات نظما وأجهزة تكنولوجية مناسبة، بل ومتطورة، ولكن مع الوقت، قد ينالها الإهمال، بل وتعمد تعطيلها فيما بعد، حين تنتهي مدة البرامج الخاصة بتلك المنح، ثم يعود النظام القائم على تعظيم المصالح الفردية والطائفية إلى ما كان عليه من قبل.
فالفساد في العراق، تحميه أحزاب وطوائف، وقوى في البرلمان، لا تمارس أدوارها الرقابية، وهي تعلم بأن ما يمارس داخل مؤسسات الدولة، هو قمة الفساد، ولكن لأن ذلك يمثل استفادة للطائفة أو للحزب، أو لبعض الأفراد، فلا يقبل أن تفتح ملفاته في البرلمان، أو أن تمتد يد الإصلاح إلى تلك الممارسات الخاصة بالفساد، أو أن تمتد يد العدالة لتحاكم من أفسدوا داخل المؤسسات العامة.
وثمة ملاحظة مهمة هنا، أن تعزيز الشفافية في المؤسسات العامة بالعراق، اهتم به البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، وقدما لذلك منحا ومساعدات، بينما الدول التي تستفيد بشكل كبير من وضع البلاد غير المستقر سياسيًا وأمنيًا، وتعمل على أن يكون تحت سيطرتها الكاملة، لم تقدم شيئا يذكر في هذا الخصوص، ونعني بتلك الدول إيران. فما تحصل عليه إيران سنويًا من تجارة مشروعة أو غير مشروعة مع العراق، يعد أحد متنفساتها من النقد الأجنبي في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ سنوات، كما أن ما تحصل عليه إيران من عوائد مالية نظير تصدير الغاز والكهرباء للعراق مبالغ طائلة، لكن من صالح إيران أن يستمر الفساد في أروقة الحكومة العراقية، وداخل مؤسساتها لكي يسهل عليها تحقيق أهدافها السياسية وغير السياسية هناك.
ماذا ينقص العراق؟
ينقص العراق أمور كثيرة، تتعلق بالوضع السياسي والاقتصادي، فلا بد من الخروج من دوامة الطائفية في إدارة الأمور العامة، وأن يكون هناك معادلة اجتماعية جديدة، تقوم على تقديم أهل الخبرة، والعمل وفق نظام ديمقراطي لا يستثني أحدا، وألا يعتمد التمييز بين أبناء العراق على أساس المعتقد أو النوع أو الطائفة، ولكن يتم التعامل على أساس المواطنة، وأن يتم التخلي في الأجلين القصير والمتوسط عن كون الدولة تعتمد على النفط كمصدر وحيد للاقتصاد القومي، فالعراق لديه مقومات كثيرة، وأن يكون لديه اقتصاد متنوع، وقد كان ذلك قائمًا قبل احتلال أميركا العراق في عام 2003، وإن كان النفط موردًا مهما في تلك الحقبة، ولكن لدى العراق قطاع زراعي أيضاً، يمكنه تحقيق اكتفاء ذاتي أو شبه ذاتي، كما أن الموارد البشرية يمكنها تغيير وجهة العراق الاقتصادية، سواء على صعيد الصناعة، أو استيعاب التكنولوجيا.
إن تفعيل دولة القانون، هو ما يحتاجه العراق في أقرب وقت، لتحقيق الشفافية والمساءلة، سواء في الإدارة المالية العامة، أو غيرها في باقي مناشط المجتمع، فالعبرة بالإرادة السياسية والمجتمعية، أكثر منها في توفير نظم أو منظومة قانونية يمكن إهمالها أو تجاوزها. إن غياب دولة القانون، هو ما مكن الفساد بالمعدلات التي أشرنا إليها من قبل، كما مكّن استيطان الفقر في العراق، والبالغ 31% من السكان، وفق بيانات يوليو/تموز 2021، حيث ارتفع المعدل بنسبة 12% في ظل كورونا.