تنهمر العقوبات الأميركية الأوروبية على روسيا دونما توقف، هادفة إلى توجيه مجموعة متنوعة من الضربات القاصمة للاقتصاد الروسي والعمل على الزج به خارج أطر العمل الدولي وحشره في الزاوية حتى الاستسلام، انطلاقا من أدوات الهيمنة الاقتصادية والمالية العالمية التي بنيت خلال الخمسين عاما الماضية والتي تشكل أدوات تحكم عن بعد، تمسك بمفاتيحها الدول الكبرى، والتي تكبد المارقين عن الأطر المرسومة بدقة خسائر فادحة، ربما تستطيع الدول تحملها لبعض الوقت، ولكن المؤكد أنها لن تستطيع الاستمرار في التحمل بدون تكاليف باهظة وفي مقدمتها فقدان المناصرين والداعمين حتى من الداخل.
ولا شك أن استخدام تلك العقوبات يعد أسلحة اقتصادية مدمرة، لن تدفع الاقتصاد الروسي فقط نحو الركود العميق، ولكنها في الأساس تهدد الاستقرار المالي والاجتماعي، وربما مستقبل تماسك الدولة الروسية بأكملها، ولا يعد ذلك من قبيل المبالغة، فالدول التي تفرض العقوبات تمثل نصف اقتصاد العالم، وتستخدم كل المتاح لديها من أدوات القوة الاقتصادية، ضد دولة تمثل فقط 2% من الاقتصاد العالمي.
أهم العقوبات الاقتصادية على روسيا
تعددت العقوبات التي فرضت على الاقتصاد الروسي جراء الغزو لأوكرانيا، وكان أهمها العقوبات التي فرضت على البنك المركزي والصناديق السيادية الروسية، بالإضافة إلى إزالة بعض البنوك الروسية من نظام "سويفت" للتحويلات المالية العالمية، وتجميد أصول الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، وإدراج سيرغي شويغو وزير الدفاع، وألكسندر بورتنيكوف رئيس جهاز الأمن الروسي، في قائمة حظر السفر وتجميد الأصول في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
كما استهدفت العقوبات كذلك تجميد أصول الشركات الكبرى المملوكة للدولة الروسية بما فيها الشركات المملوكة لوزارة الدفاع والعمل على تأسيس قوة تعمل عبر المحيط الأطلسي للبحث عن الأصول الروسية والعمل على تجميدها، سواء كانت مملوكة لأشخاص أو لشركات روسية، علاوة على منع بيع قطع غيار الطائرات للشركات الروسية، ومنع بيع السلع ذات التقنية العالية لروسيا.
كذلك أقر الاتحاد الأوروبي الحد من بيع الجنسية أو المواطنة باستخدام قانون "جواز السفر الذهبي" الذي يسمح للأثرياء الروس بالحصول على جنسية دول أوروبية، كم فرضت عقوبات على المنصات الإخبارية الروسية، ومنها وكالة أنباء سبوتنيك وقنوات روسيا اليوم.
وكانت أخطر هذه العقوبات إعلان المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، فرض عقوبات إضافية على روسيا، تضمنت عقوبات على البنك المركزي، ومنع ولوج 70 بالمائة من المصارف لنظام سويفت للتحويلات المالية عبر الحدود، كل ذلك بالإضافة إلى العقوبات التي اتخذتها بعض الدول مثل بريطانيا وفرنسا والتي قيدت دخول السفن الروسية لموانئها، وحظر تصدير بعض السلع التي يمكن أن تستخدم لأغراض مدنية أو عسكرية، ومنع المواطنين والشركات من أي تحويلات مالية نحو روسيا.
تنامي التعاون الاقتصادي الروسي الصيني
من المنطقي بعد توجيه الغرب لترسانة أسلحته الاقتصادية نحو الاقتصاد الروسي أن تبحث روسيا عن حلفاء محتملين يساعدونها على تخطي بعض من تداعيات تلك العقوبات، ويبرز التنين الصيني الصاعد كأهم حليف يمكن الاستناد إليه في المرحلة الراهنة، خاصة أنه يعد هو الآخر مارقا من وجهة النظر الأميركية، مما استوجب فرض مجموعة متنوعة من العقوبات ضده، بالإضافة إلى التاريخ والتعاون الاقتصادي المشترك بين الدولتين لا سيما على صعيد تصدير الغاز.
فمن ناحية أصبحت الصين المستورد الأكبر للغاز الروسي وذلك بعد استكمال عدة خطوط لنقل الغاز الروسي عبر سيبيريا، وهو ما أفلت احتياجات الصين من الغاز من القبضة الأميركية التي تتحكم في الطرق البحرية التي كانت تمر منها سابقا 80% من الواردات الصينية عبر مضيق ملقا، كما ساعد الروس ولو نسبيا على تنويع أسواق التصدير كبديل لشبه الاحتكار الأوروبي لصادراتهم من الغاز.
كما أن مؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين تسير في اتجاه إيجابي، سواء على المستوى الثنائي أو في الأطر الإقليمية التي ينتميان إليها، ويبرز ذلك بتوقيع اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية، والتعاون الرقمي، وإطلاق مشاريع البنية التحتية الداخلية والمشتركة، وتعزيز قطاع المشاريع المالية المشتركة، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من العمال الصينين الذين يعملون في مشاريع البنية التحتية الروسية.
وهو الأمر الذي أثمر عن زيادة كبيرة في التبادل التجاري بين البلدين، حيث أظهرت بيانات هيئة الجمارك العامة الصينية نموا للتبادل التجاري بين روسيا والصين خلال عام 2021 بنسبة 35.8 في المائة لتبلغ 146.88 مليار دولار، حيث ارتفعت الصادرات الصينية إلى روسيا بنسبة 33.8 في المائة على أساس سنوي وبلغت 67.565 مليار دولار، وزادت الواردات من روسيا إلى الصين بنسبة 37.5 في المائة لتبلغ 37.5 مليار دولار.
بالإضافة إلي توفير روسيا ما يقارب 40% من احتياجات الغاز الصينية، والتوافقات البينية والمشتركة بين البلدين في الكثير من القضايا والملفات، بالإضافة إلى أن الصين كانت المحطة الأخيرة للرئيس فلاديمير بوتين في مطلع فبراير/شباط الماضي قبل غزو أوكرانيا بقليل، وتوقيعه لاتفاقيات متنوعة تصل قيمتها لحوالي 117 مليار دولار، كل ما سبق دفع العديد من الباحثين للقول بأن الصين ربما تشكل الملاذ الأخير المحتمل لروسيا لتخفيف وطأة الحرب الاقتصادية الأوروأميركية.
الملاذ الصيني ليس مؤكداً
من الواضح أن بكين لن تدعم أي عقوبات ضد موسكو وستظل شريكة لها، ولكن السؤال هل ستواصل الصين تطوير التعاون الاقتصادي مع روسيا بما يضمن تخفيض فواتير العقوبات، ووفقا للمحللين الروس فإن موسكو تأمل أن يتفهم الصينيون أن دورهم قادم، وأن مساعدتهم روسيا جزء من دفاعهم عن أنفسهم، وأن الصورة التي يصدرها الغرب أن العالم كله يواجه روسيا ليست إلا مبالغة إعلامية غربية، حيث الواقع أن روسيا تواجه فقط أوروبا والولايات المتحدة، فهناك أيضا دول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
كما أنه من الواضح، طبقا للمحللين الروس، أن الصين وبقية دول منظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، قادرة بتعاونها معا، على التخلي عن نظام بريتون وودز والدولار، وتأسيس نظام خاص بها، وبعد ذلك ستكون هناك منافسة بين النظامين، وسيحدد الزمن أيهما أكثر استقرارا.
تعبر الأمنيات الروسية السابقة عن مكنون الفكر الروسي حول الخروج من الأزمة، ولكن السؤال الأهم يدور حول واقعية الطرح الروسي واستعداد التنين الصيني للمواجهة في الوقت الراهن لا سيما أن هذا الاستعداد لم يتجل في تصريحات رسمية بعد، كما أن الرئيس الصيني شي جين بينغ في آخر محادثة هاتفية مع الرئيس الروسي منذ أيام، صرح بعدة عبارات مطاطة قائلا: "إنه يجب في الأزمة الأوكرانية، التخلي عن عقلية الحرب الباردة واحترام المصالح الأمنية المشروعة لجميع الدول"، كما أكد أن الجانب الصيني يؤيد التسوية بين روسيا وأوكرانيا من خلال المفاوضات، بما يعني أن الصين لم تقرر التوغل في المستنقع الحالي على الأقل في الفترة القصيرة القادمة.
حرب أوكرانيا بداية لنظام عالمي جديد
اتفق معظم الخبراء أن يوم بداية الحرب على أوكرانيا كان إيذانا ببداية تشكل نظام عالمي جديد، وأيا كان الترجيح حول جر روسيا إلى الحرب لاستنزافها أو قدرات الدب الروسي على الصمود، سيبقى الحليف الصيني المحتمل قوة رافعة لروسيا في مواجهة استنزاف العقوبات الاقتصادية المنهمرة، بالإضافة إلى إمكانات اتحادهما في تشكيل ذلك النظام العالمي الجديد.
وسيبقى العجيب في الأمر استسلام الدول العربية لوقائع الأحداث وعدم استثمار الفرص التي تخلفها ساحات الحروب في شغل أحد مقاعد الفواعل الدولية، أو على الأقل تعظيم مكاسبها من خلال الانحياز لأحد الطرفين، وعموما فقد تأكد من جديد أن مصالح الشعوب العربية تختلف تماما عن مصالح أنظمتها، وهو الأمر الذي جعل هذه الشعوب تابعة للنظام العالمي القديم وعلى الأرجح الجديد.