الصندوق الذي أقرضنا

02 نوفمبر 2022
الصندوق أعلن الاتفاق مع مصر على منحها تسهيل بمبلغ 3 مليارات دولار (Getty)
+ الخط -

شهدت العاصمة الأميركية واشنطن، خلال الفترة من 10 إلى 16 أكتوبر/تشرين الأول اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين، والتي شهدت حضور لفيف كبير من المديرين التنفيذيين، ووزراء المالية، ورؤساء البنوك المركزية، في أغلب بلدان العالم.

وبالتوازي مع هذه الاجتماعات، وخلال الأسبوع نفسه، كانت هناك دعوات لما أطلق عليه "الأسبوع العالمي للحراك من أجل العدالة وإلغاء الديون" من أجل التصدي للسياسات النيوليبرالية التي تمليها المؤسسات المانحة، والمطالبة بإلغاء الديون غير المشروعة، التي ترهن البلدان المقترضة، وتعمق تبعيتها للخارج.

وكان من أكبر داعمي هذا الحراك "الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية" التي تأسست سنة 1990، تحت اسم "اللجنة من أجل ديون العالم الثالث"، قبل تغيير الاسم في 2016.

والعام الحالي، أتم صندوق النقد والبنك الدوليان عامهما الثامن والسبعين، إذ تأسسا عام 1944 قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، ليقوما بدور "رجل الشرطة" في النظام المالي العالمي، الذي كان يتكون وقتها، ومنحَ الولايات المتحدة، وعدداً محدوداً من الدول الحليفة، الريادة في النظام الناشئ. وتقول اللجنة إنّ هاتين المؤسستين تعملان على تعميم السياسات التي تتعارض مع مصالح الشعوب.

تشير اللجنة على موقعها على الإنترنت إلى أنّ البنك الدولي والصندوق يقدمان قروضاً بشكل منهجي للدول، كوسيلة للتأثير في سياساتها، وتؤكد أنّ المديونية الأجنبية كانت وما زالت تُستخدم أداة لإخضاع المقترضين. وتضيف: "منذ إنشائهما، انتهك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وهما لا يترددان في دعم الديكتاتوريات".

لم تأتِ اللجنة بهذه الأحكام من فراغ، وإنما استعانت بالعديد من الكتب المهمة، كان على رأسها كتاب "البنك الدولي: انقلاب عسكري لا ينتهي" للمؤرخ والسياسي والاقتصادي الدكتور إريك توسان.
تقول اللجنة إنه في سنة 1989، صدر من باريس "نداء الباستيل" الذي دعا كلّ القوى الشعبية عبر العالم للاتحاد من أجل الإلغاء الفوري وغير المشروط لديون البلدان المسماة "نامية" فقد أدت هذه الديون الظالمة إلى انفجار اللامساواة، وإلى فقر شعبي، وأشكال ظلم سافرة وتدمير للبيئة.

وترى اللجنة أنّ تزايد الدين العام في البلدان النامية يؤدي إلى تحويل ثروات الشعوب الفقيرة إلى الدائنين، وأنّ الطبقات المهيمنة المحلية تقوم باقتطاع عمولات، بصورة أو بأخرى، لصالحها أثناء عملية التحويل تلك.

وتتابع اللجنة: "تمثل الديون الخارجية آلية لتحويل الثروات التي تكافح الشعوب لتكوينها لصالح القوى الرأسمالية والمقرضين حول العالم، كما أنّ المديونية تستخدم من قبل الدائنين أداة للهيمنة السياسية والاقتصادية التي ترسي شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار".

وتستشهد اللجنة على ما تقول بالاستنزاف الكامل للشعوب التي أصبحت فقيرة، رغم ثرواتها الطبيعية والبشرية الهائلة، حيث تستحوذ خدمة الدين في الدول النامية غالباً على مبالغ تفوق نفقات التعليم والصحة والتنمية القروية وخلق فرص العمل.

وتقول اللجنة إنّ مبادرات تخفيف عبء الديون التي روّج لها الصندوق والبنك الدوليان خلال السنوات الأخيرة لم تكن سوى إجراءات خادعة، بخاصة أنّها كانت مصحوبة بشروط بالغة الضرر على البلدان التي "استفادت" منها.

موقف
التحديثات الحية

تذكرت كلّ ما سبق عند قراءتي بيان صندوق النقد الدولي الذي أعلن فيه الاتفاق مع مصر على منحها تسهيل بمبلغ 3 مليارات دولار، معدداً فيه شروطه، بداية من الالتزام باتباع نظام سعر صرف مرن ودائم، ومروراً بالتخلص التدريجي من الاستخدام الإلزامي للاعتمادات المستندية لتمويل الواردات، فضلاً عن التزام السلطات المصرية الثابت بمعالجة التعديلات المطلوبة على مستوى الاقتصاد الكلي وإجراء إصلاحات هيكلية طموحة.

وقال البيان إنّ الاتفاق يشمل سياسات لإطلاق العنان لنمو القطاع الخاص، عن طريق الحد من تأثير الدولة، واعتماد إطار تنافسي أكثر قوة، وتعزيز الشفافية، وضمان تحسين تيسير التجارة.

لم يقلقني في البيان أي إشارات لما اعتبره البعض نوعاً من فرض الوصاية الدولية أو الإقليمية على الاقتصاد المصري، فقد اعتبرت أنّ المقصود هو حث صندوق النقد لبعض الدول الخليجية على التوجه نحو الاستثمار في مصر، سواء عن طريق شراء بعض الأصول التي تقوم الحكومة المصرية بعرضها للبيع، أو من خلال الاستثمار في أدوات الدين المحلية، باعتبارهما مسارين مكملين لإنقاذ مصر من أزمتها المالية الحالية.

لكنّ ما أقلقني حقيقة، هو تأكيد الصندوق، على نحو لم يحدث في حالات الاقتراض السابقة، على نقطة "ضمان تحسين تيسير التجارة" التي ذكرها في بيانه، بلا أي داع، مع تأكيده أهمية "التخلص التدريجي من الاستخدام الإلزامي للاعتمادات المستندية لتمويل الواردات" كونها جزئية يفترض أن تكون بعيدة تماماً عن اهتمامات الصندوق.

وكان البنك المركزي المصري قد قرر خلال الربع الأول من العام الجاري إلغاء نظام مستندات التحصيل، والتحول إلى نظام الاعتمادات المستندية، بهدف إبطاء عملية الاستيراد، بعد أن نزحت مليارات الدولارات من الأموال الساخنة من البلاد، وتسببت في حدوث أزمة كبيرة، هددت توفير العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد المواد الغذائية الأساسية، وللوفاء بأقساط الدين المستحقة وفوائدها.

والأسبوع الماضي، وتزامناً مع الإعلان عن التوصل لاتفاق مع الصندوق، أعلن البنك المركزي المصري توجهه نحو الإلغاء التدريجي لنظام الاعتمادات المستندية، والعودة للنظام القديم، قبل أن نقرأ بيان الصندوق، ونعرف أنّه كان شرطاً للحصول على القرض.

تعوق العودة لنظام مستندات التحصيل القديم، بلا شك، محاولات تقليص عجز الميزان التجاري المصري، الذي يعد العامل الأهم في وصول البلاد لما وصلت إليه، وفي استمرار انهيار العملة المصرية، كونها تسمح للتجار المصريين باستيراد أضعاف ما كان يمكنهم استيراده في حالة إلزامهم باستخدام نظام الاعتمادات المستندية.

يمكننا أن نقبل الشروط الصعبة، لو كانت مفيدة للبلاد، وإن طلبت بصورة معجلة، أما أن تكون بعض الشروط تسير بالبلاد في الاتجاه المعاكس، فيدعونا ذلك لتذكّر النصف الأول من المقال، وما جاء فيه من أهداف يسعى الصندوق لتحقيقها، من خلال قروضه للدول المأزومة، لنعرف ماذا ينتظرنا خلال الشهور القليلة المقبلة.

المساهمون