لا يعرف اللبنانيون حتّى اللحظة تفاصيل ما يتم العمل عليه في الخطّة الماليّة الجديدة، التي تجري صياغتها في لجان استشاريّة ووزاريّة جانبيّة على وقع المحادثات مع صندوق النقد الدولي.
بل ويُمكن الجزم بأنّ الغالبية الساحقة من وزراء الحكومة نفسها لا يعلمون كل هذه التفاصيل، بغياب جلسات رسميّة منتظمة لمجلس الوزراء.
وبدلاً من المصادقة على مقاربات الخطة وملامحها العامّة في مجلس الوزراء بشفافيّة أمام الرأي العام، قبل الشروع في وضع تفاصيلها وأرقامها، يتم اليوم إنجاز جميع تفاصيل الخطّة خلف الستار وبالتشاور مع الصندوق، على أمل إسقاطها وفرض المصادقة عليها تحت ضغط ضرورة إقرار التفاهم مع صندوق النقد الدولي والحصول على قرضه.
كل ما سبق قوله لا يندرج بأيّ شكل من الأشكال في إطار سوء النيّة أو استباق الأحداث، بل يمكن استخلاصه مباشرةً من تصريحات نائب رئيس الحكومة، سعادة الشامي، المسؤول عن ملف المفاوضات مع الصندوق، والذي أكّد أنّ العمل على جميع الملفّات الفرعيّة المرتبطة بالخطة الماليّة الشاملة جارٍ بالتنسيق مع صندوق النقد.
أمّا غياب جلسات مجلس الوزراء، فلن يكون عقبة أمام إنجاز الخطّة بجميع تفاصيلها، إلى أن يصل لبنان إلى مرحلة المصادقة النهائيّة على الخطّة بعد إنجازها، حيث يفترض أن يلتئم المجلس لإقرارها، كما شرح الشامي بالتفصيل.
باختصار، لا يتسم العمل على الخطّة الماليّة الشاملة الجديدة بأدنى معايير الشفافيّة المطلوبة، رغم كونها الخطّة الاقتصاديّة الأكثر حساسيّة في تاريخ البلاد، من حيث دورها في توزيع خسائر الانهيار المصرفي وتحديد آليّات التعامل مع الفجوات الموجودة في ميزانيّات القطاع.
كما يفترض أن تحدّد الخطّة طريقة التعامل مع السندات السياديّة التي تعثّرت الدولة في دفعها، وطريقة استعادة الانتظام في الماليّة العامّة، بالإضافة إلى آليّات توحيد أسعار الصرف وتعويمها وأثرها على قيمة الأجور الشرائيّة.
ولفهم حساسيّة الخطة هذه، تكفي الإشارة إلى أنّ قيمة الفجوة في ميزانيّات القطاع المصرفي، والتي سيتم التعامل معها في هذه الخطّة، تتجاوز 3.5 أضعاف حجم الناتج المحلّي للبلاد.
أما الدين العام الذي يفترض أن تُعاد هيكلته بحسب الخطّة، فتقارب قيمته 174% من الناتج المحلّي بحسب أرقام البنك الدولي، بعد احتساب أثر انهيار سعر الصرف على قيمة السندات والناتج معًا.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ العملة المحليّة، التي يجب أن ترسم الخطّة الطريق إلى تعويمها، تقارب قيمتها في السوق الموازية 14.8 ضعف سعر الصرف الرسمي القديم، والذي يمثّل قيمة الليرة قبل حصول الانهيار سنة 2019.
وفي الوقت الراهن، تستمر فوضى سعر الصرف دون أن يتم إجراء أي تصحيح شامل لأجور القطاعين العام والخاص، ناهيك بالحدّ الأدنى للأجور، منذ حصول الانهيار النقدي.
بكلام آخر، يوجد ما يكفي من الأسباب التي تفرض أن يتم رسم الخطّة اليوم بوضوح وشفافيّة أمام جميع اللبنانيين، بل وبالشراكة مع أصحاب المصلحة المتضرّرين من هذه الأزمة، أي على سبيل المثال: روابط وجمعيّات المودعين الذين خسروا مدخراتهم، والنقابات العمّاليّة ونقابات المهن الحرّة التي تمثّل الفئات التي خسرت قيمة مداخيلها بفعل تهاوي قيمة العملة المحليّة، ناهيك بسائر الأطر القادرة على تمثيل مصالح الفئات الأكثر هشاشة والشرائح محدودة الدخل، والقطاعات الإنتاجيّة التي هشّمتها آثار الأزمة.
وحدها جمعيّة المصارف اللبنانيّة نالت شرف الاطلاع على الطروحات المبدئيّة الواردة في الخطّة، ومن ثم إبداء الرأي والتشاور بخصوصها، رغم أنّ الدولة كان يفترض أن تتعامل مع الجمعيّة من موقع المفاوض لا الشريك.
فالجمعيّة تمثّل اليوم أكبر دائني الدولة اللبنانيّة، الذين يجب أن تفاوضهم الدولة لإعادة هيكلة الديون وفق استحقاقات وآجال وفوائد جديدة.
والجمعيّة أخذت منذ بدء الانهيار موقع الدفاع عن رساميل القطاع المصرفي، لتحميله أقل قدر من خسائر الأزمة، بالتوازي مع ضغطها باتجاه طروحات تحاول تحميل الأموال العامّة كلفة إعادة ترميم القطاع والتخلّص من الفجوات في ميزانيّات، عبر مشاريع الخصخصة والشراكة ما بين القطاعين العام والخاص.
ببساطة، كان على اللبنانيين الاطلاع على نشرة جمعيّة المصارف الدوريّة ليتقصّوا بعض تفاصيل هذه الخطّة المنتظرة، والتي نقلت الجمعيّة طروحاتها من مداولاتها مع المسؤولين اللبنانيين.
وبدا واضحاً من النشرة التي لخّصت هذه المداولات أن الجمعيّة باتت تنظر بتفاؤل مستجد للخطة الجديدة، في مقابل تشاؤمها السابق من الخطّة القديمة التي عملت عليها الحكومة السابقة، مع الإشارة إلى أنّ جمعيّة المصارف والمصرف المركزي، ومجموعة واسعة من القوى السياسيّة اللبنانيّة التي تنسجم مع مقارباتهما، شنّت خلال العام الماضي حملة قاسية في وجه الخطّة القديمة، التي نصّت على تحميل رساميل القطاع المصرفي حصّة وازنة من خسائر الأزمة الماليّة.
احتفاء جمعيّة المصارف بمقاربات الخطّة الجديدة، يمثّل بحد ذاته سبباً لتوجّس اللبنانيين من هذه الخطّة، طالما أنّ مصالح المصرفيين باتت في موقع النقيض لمصالح الدولة والمجتمع، في ميزان توزيع الخسائر الماليّة.
لكنّ الدخول في تفاصيل الطروحات التي نقلتها الجمعيّة عن المعنيين بتحضير الخطّة، يؤكّد كل هذه الهواجس. تنقل الجمعيّة تقدير الخطّة لفجوة الخسائر المصرفيّة بنحو 60 مليار دولار، فيما يفترض أن يتم تحميل الدولة مسؤوليّة التعامل مع هذه الخسائر، من باب "إعادة رسملة المصرف المركزي".
كما يمكن إبقاء جزء من هذه الخسائر متراكمة بلا معالجة، على شكل "رأسمال سلبي" ضمن ميزانيّات المصرف المركزي.
الفجوة التي تتحدّث عنها جمعيّة المصارف هنا، هي تحديدًا الفارق بين موجودات المصرف المركزي والتزاماته بالعملات الصعبة. وهذه الفجوة تراكمت تدريجيّا عبر تنامي توظيفات المصارف في المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، ومن ثم تبديد المصرف لجزء وازن من هذه التوظيفات.
وبما أنّ الدولة لا تملك حكماً المليارات المطلوبة بالعملة الصعبة لتعيد رسملة مصرفها المركزي، فالمطلوب حكماً اللجوء إلى عمليّات الخصخصة والشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، لتأمين السيولة الكفيلة بالتعامل مع هذه الخسائر.
بمعنى آخر، عدنا إلى فكرة تحميل المال العام وأصول الدولة كلفة تصحيح وضع قطاع مصرفي مفلس، وهي مسألة لطالما حذّر منها خبراء المال والاقتصاد منذ بداية الأزمة.
فالمصارف التجاريّة اللبنانيّة توسّعت قبل 2019 في توظيفاتها لدى المصرف المركزي، مقابل تقليص حجم ودائعها لدى المصارف المراسلة.
وهذه العمليّات جاءت مدفوعةً بالبحث عن الفوائد والأرباح الخياليّة التي منحها لها المصرف في إطار ما عُرف بالهندسات الماليّة، رغم ارتفاع مخاطر هذه التوظيفات بشكل غير مسبوق في تاريخ لبنان، مع الإشارة إلى أنّ الهندسات الماليّة وأرباحها نفسها كانت مسؤولة عن جزء كبير من خسائر مصرف لبنان.
وبدل أن يتم تحميل الرساميل المصرفيّة جزءاً ما من خسائر تعثّر هذه التوظيفات، مقابل المجازفات التي قامت بها إدارات المصارف على حساب سلامة أموال المودعين، تتجه الخطة الماليّة إلى تحميل كامل هذه الخسائر للمال العام وأصول الدولة.
ولكلّ هذه الأسباب، لا يبدو أن ثمّة ما يدعو للتفاؤل كثيراً بهذه الخطة المنتظرة، التي يتم العمل عليها اليوم بعيداً عن الأضواء. بل ويمكن القول إنّ نوعيّة المقاربات التي يتم اعتمادها في الخطّة، تفسّر الإصرار على عدم كشف تفاصيل ما يتم العمل عليه اليوم.