لا شيء على المرء، أسهل من التصريحات والفتوحات القولية، لطالما الحكي من دون ضرائب، ولا يخضع القوالون لمحاسبة إن لم يحققوا وعودهم، خاصة تلك التي تطلق خلال نشوة الفرح والانتصار، أو التي تقال خلال الشدة والمخاوف.
بيد أن للأقوال بالمقلب الآخر، أو بعضها على الأقل، موضع ترحيب وانتظار من متربصين باحثين عن ذريعة يعلقون عليها أسباب فشلهم أو تردي وضعهم الحياتي والمعيشي، تماماً كتلك التي يطلقها، زعيم حزب "الظفر" التركي، أوميت أوزداغ من دون توقف أو كلل أو محاسبة، منذ عامين بحق السوريين.
أو ما تنغّمت به، ميرال أكشنر رئيسة حزب "الجيد" الذي طرد منه أوزداغ، بين الفينة والأخرى، مخوّفة خلال آخر تصريح من إقامة "سورية صغيرة" داخل تركيا.
وما الدعوى أو الدعاوى التي رفعت بحق أوزداغ بتهم "إثارة الكراهية والعداوة بين المواطنين، وإساءة استخدام النفوذ، والمساس بخصوصية الآخرين" إلا من قبيل "لزوم ما يلزم" شكلانياً، بدليل استمراره من دون أن يردع، واستمرار العنف والكراهية التي يلاقيها السوريون والتي لا يمر أسبوع، من دون جريمة قتل أو حالات اضطهاد وطرد من تركيا باتجاه المناطق المحررة، من دون ذريعة قانونية أو وجه حق، ببعض الأحايين.
بل ووصل الأمر أخيراً، لنشر دعاوى طرد السوريين على اللوحات الإعلانية بالطرقات العامة ومواقف حافلات النقل، بعد أن "ضجت تركيا" بالدعوات إلى قتل السوريين وتقطيعهم مقابل مكافآت مالية بعملة "البتكوين"، قبل أن تنشر منصة "إيكاد" المتخصصة باستخبارات المصادر المفتوحة، تحقيقاً كشفت خلاله الأشخاص الذين يقفون وراء الموقع الإلكتروني الداعي لقتل السوريين في تركيا.
قصارى القول: لأن السياسة من دون دين ومبدأ وأخلاقيات، على الأقل بالمنظور الحالي المتداول، سنقفز على كل ما يمكن أن يطوى تحت لوائها، من براغماتية ومبررات، يمكن أن تشفع أو تبرر لبعض الأتراك صنائعهم بحق اللاجئين، لنذهب إلى ما يمكن إثباته بالرقم وتدعيمه بالحجة، بادئين المرافعة بسؤال: كم سوري حتى اليوم على الأراضي التركية وكم منهم عاد وكيف بدا مشهد الاقتصاد التركي قبل وبعد هذه الحملة المسعورة؟
طبعاً من دون أن تغرق بالبدهي حول أسباب لجوء السوريين وما عانوه قبل أن يلجأوا للجار التركي، كما لنحو مئة دولة حول العالم، بعد أن طالبوا نظام الاستبداد الوراثي بدمشق، ببعض حرية وكرامة وعيش آدمي.
المصادر الرسمية تشير إلى نحو 4.3 ملايين لاجئ سوري بعد الهجرة والترحيل والعودة الطوعية "نحو 600 ألف عادوا حسب الرئيس أردوغان".
ويعمل بحسب منظمة العمل الدولية نحو 48.2% من السوريين في قطاع التصنيع، بينهم 31.1% يعملون في قطاع الألبسة، ويعمل 21.3% من العمالة في قطاع الإنشاءات.
ويعمل 17.7% في قطاع التجارة والضيافة، حيث يتوزع هؤلاء إلى 35.7% في تجارة التجزئة، و30.1% في قطاع الطعام، و34.2% في قطاعات أخرى.
كما يعمل 7.8% من السوريين في الزراعة، و1.4% في قطاع النقل والاتصالات، و2.7% في قطاع التعليم، و1.1% في قطاع الصحة.
كما تشكل العمالة السورية 2.9% من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي وفقاً لإحصائيات الحكومة التركية، ومع ظروف العمل الطويلة والشاقة يتلقى 75% منهم رواتب أقل من الحد الأدنى من الأجور والبالغ 11400 ليرة تركية، فيما يتقاضى 25% رواتب تزيد عن الحد الأدنى "عسكر أجريت".
إذاً، وبنظرة سريعة على تلك الإحصاءات، يمكن الاستشفاف أن السوريين داعمون للاقتصاد وبقطاعات قلما يقبل الأتراك على العمل فيها، بل وآثار حصارهم بدأت تظهر تباعاً، بعد شكايات أصحاب العمل ورمي أرقام الخسائر التي قالت مصادر إنها نافت 3 مليارات دولار بسبب ملاحقة وطرد السوريين.
وبمتابعة المرافعة نسأل: هل فعلاً يأخذ السوريون أجوراً مرتفعة ومساعدات من الدولة التركية ولديهم "غوتا" خاصة للدخول للجامعات و"ميزات" إضافية لفتح المحال وإنشاء المنشآت؟
الإجابة المدعمة بتصريحات المسؤولين واستفتاء السوريين، أن الدولة التركية لا تقدم، كأية دولة أوروبية استقبلت السوريين، رواتب أو مساعدات، عدا فتات لا يسمن ولا يغني "كرت مول وتدفئة لقلة قليلة"، وتأتي هذه المساعدات من منح ومساعدات الاتحاد الأوروبي وليس من الخزينة التركية.
بل ربما على العكس، فالسوريون يعملون لساعات طويلة وبالحد الأدنى للأجور، بل معظم السوريين يجري استغلال حاجاتهم ووضعهم القانوني، فيعملون بأقل من الحد الأدنى، ومن دون تسجيل بالتأمينات أو ضمان الحقوق.
ولجهة الإغراءات والتسهيلات وغض الطرف، فقد ولّت منذ سنوات، إذ الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن تركيا تساهلت وبشدة خلال سنوات اللجوء الأولى، بيد أنها تتشدد اليوم لدرجة "التطفيش والتكريه" وليس بذلك اتهام أو تجن، وبدأت ملامح السياسة الجديدة تنعكس على الرساميل السورية لتبحث عن دول ومناخات جديدة، بعد أن تبوأ السوريون المرتبة الأولى لسنوات بين المستثمرين الخارجين، وأسسوا خلال سني لجوئهم لتركيا، أكثر من 10 آلاف شركة وبقطاعات عدة، منها التجارة والصناعة، ليعدلوا من عجز الميزان التجاري، كما قرأنا وسمعنا من غير مسؤول تركي، ويبدلوا من بعض الأنماط الإنتاجية وحتى الغذائية، باعتراف أتراك منصفين.
نهاية القول: مع اقتراب الانتخابات البلدية بتركيا، عادت صيحات طرد السوريين، وتعالت النبرة العنصرية وتحميل اللاجئين ما لا ذنب لهم به وما لا طاقة لهم على حمله وتحمّله، لنرى، كما أسفلنا، جرائم قتل وطرد من المنازل بعد وعيد رفع الإيجار بنسب خيالية واستعار حملات الملاحقة بالشوارع وتحديد 24 الجاري، آخر موعد للمقيمين خارج ولايات إصدار بطاقة حمايتهم المؤقتة، تحت طائلة الترحيل إلى سورية رغم امتلاك الوثائق الرسمية.
والمدهش بالأمر، أن تركيا التي تزاحم الكبار، اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، تعجز عن سن تشريعات تحمي اللاجئين على أراضيها وتجرّم السلوكيات العنصرية، أو تنظم عمل الأجانب عبر قواعد صارمة لأرباب العمل لعدم الاستغلال والقهر ومحاولات الابتزاز.
لتبقى متأرجحة اليوم بواقع التبدلات بسورية وخارجها، أمام اختبار، إنساني وقانوني وتاريخي، يرسّخ "معروفها" باستضافة الملايين لسنوات ومعاملتهم بادئ الثورة بمنطق "المهاجرين والأنصار"، أو تسقط بالاختبار بفعل الضغوط السياسية والنفعية أو "الشارع عاوز كده" من دون العمل على تبديل ذهنية الشارع المستجدة، وإن بقوة القانون إن لزم الأمر. والذي له -الشارع- ملايين الأهل والأقرباء واللاجئين بدول العالم، لا يلاقون ما يلاقيه السوريون بين إخوتهم الأنصار.