كما توقعت قبل شهور، فقد أقدمت الحكومة السودانية يوم الأحد على تعويم الجنيه مقابل الدولار، وهو ما أدى إلى حدوث تهاوٍ في قيمة العملة المحلية بلغت نسبته نحو 582%، وهو خفض حاد مقارنة بنتائج قرارات التعويم الكلي أو الجزئي التي جرت في دول عربية أخرى خلال السنوات الأخيرة مثل مصر ولبنان والمغرب والجزائر والعراق واليمن وليبيا، ربما تجربة سورية هنا هي الاستثناء.
القرار السوداني، الذي كان متوقعاً على نطاق واسع، أدى إلى حدوث تراجع سريع في قيمة الجنيه المتداول في السوق الرسمي ليصل إلى 375 جنيهاً للدولار، مقابل 55 جنيهاً، وهو سعر قريب من سعر السوق السوداء الذي يراوح في الفترة الأخيرة بين 350 و400 جنيه.
حكومة الفترة الانتقالية بررت هذه الخطوة بأنها "تهدف إلى توحيد أسعار الصرف الرسمية والموازية للبلاد، والقضاء على السوق السوداء للعملة، عبر تبنّي حزمة من السياسات والإجراءات التي تستهدف إصلاح نظام سعر الصرف وتوحيده، وذلك بانتهاج نظام سعر الصرف مرن المدار".
لكن ما لم تقله هذه الحكومة التي فشلت حتى الآن في تلبية احتياجات شعب ثار على نظام عمر البشير وأسقط رموزه: ما هي الأسباب الحقيقية وراء التعويم، هل للتمهيد للدخول في مفاوضات مع الدائنين الدوليين ومنهم صندوق النقد، وماذا عن الخطوة المقبلة التي تلي قرار التعويم؟
ماذا عن خطة الحكومة الانتقالية للتعامل مع القفزات المتوقعة في أسعار السلع والخدمات بسبب التعو، بما فيها السلع الغذائية والمعيشية بسبب التهاوي في قيمة العملة المحلية؟
هل يتوافر لدى الحكومة رصيد كافٍ من النقد الأجنبي للدفاع عن الجنيه في مواجهة مضاربات محتملة وقوية من قبل تجار العملة ومستغلي الأزمات، خاصة وأن البنك المركزي لا يمتلك أصلا احتياطي من النقد الأجنبي الذي نفد أو قارب على النفاد؟
هل حصلت الحكومة على وعود من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين بمنحها قروضاً سريعة يمكن من خلالها تدبير احتياجات وكلفة الواردات، خاصة من الأغذية والأدوية والوقود والسلع الوسيطة والمواد الخام، وكذا توفير سيولة تمكن البلاد من سداد أعباء الديون الخارجية المستحقة؟
هل لدى الحكومة برامج لحماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة المتضررة من قرار التعويم؟ ماذا عن برامج الحماية الاجتماعية؟
أم أن قرار التعويم سيفتح الباب على مصراعيه أمام الحكومة لانتهاج سياسات تقشفية عنيفة بحق المواطن، تصاحبها زيادات قياسية في أسعار السلع والخدمات مثل رغيف الخبز والسلع التموينية والمياه والكهرباء والغاز المنزلي والمواصلات العامة والاتصالات والتعليم والصحة، وزيادة الضرائب القائمة، وفرض عشرات من الضرائب والرسوم الجديدة، وتجميد الرواتب، وربما خفضها، وتقليص عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة، وبيع شركات قطاع الأعمال العام، والتنازل عن أصول الدولة، والتوسع في سياسة بيع الأراضي؟
مشكلة الحكومة السودانية أنها لا تملك حالياً أدوات وإمكانات مادية للدفاع عن قرار التعويم الصادم وإعادة الاستقرار للأسواق المضطربة وطمأنة المواطن، فلا يوجد لدى البنك المركزي احتياطي من النقد الأجنبي، ولا تتوافر لدى الحكومة سيولة دولارية لتمويل الواردات الخارجية وسداد الديون.
وما لم تحصل الحكومة على قروض سريعة، سواء من المؤسسات المالية الدولية أو مانحين خليجيين وإقليميين، فإن التهاوي في قيمة العملة سيتواصل، وبالتالي ستقدم الحكومة على تعويم آخر للعملة في القريب العاجل.
وهنا تدخل الأسواق والمواطن في دوامة لا نهاية لها من الأزمات المعيشية وقفزات الأسعار، خاصة أن معدل التضخم وصل بالفعل إلى معدلات قياسية هي الأعلى في العالم، حيث تجاوزت 304.22% في شهر يناير/ كانون الثاني 2021، مقارنة بـ269.33% لشهر ديسمبر/ كانون الأول 2020.