السودانيون تحت مقصلة صندوق النقد: غلاء وضرائب

12 مارس 2021
التضخم في أسعار السلع يرتفع إلى 331% حسب بيانات رسمية (أشرف شاذلي/فرانس برس)
+ الخط -

ثارت مخاوف في الشارع السوداني من موجة غلاء جديدة في ظل التوجهات الحكومية لفرض مزيد من الإصلاحات بناء على ضغوط من صندوق النقد الدولي، وفي المقابل أكد خبراء اقتصاد أن الإصلاحات ضرورية ولكن يجب حماية المواطنين من تداعياتها السلبية.

ويأتي ذلك في وقت قفزت فيه أسعار السلع والخدمات إلى مستويات قياسية، حسب بيانات رسمية صدرت أمس الخميس.

وكان صندوق النقد الدولي، طالب الحكومة الانتقالية في السودان بمزيد من الإجراءات الإصلاحية للاقتصاد، بعد تعويم الجنيه وإلغاء دعم الوقود، مشيراً إلى أن السلطات السودانية حققت تقدماً ملحوظاً في تنفيذ الإصلاحات الضرورية التي تعد شرطاً رئيسياً لإعفاء الديون في نهاية المطاف.

إشارات مخيفة

وقال صندوق النقد في بيان له، الاثنين الماضي، إن توحيد سعر الصرف الأخير، وإلغاء دعم الوقود، والتدابير الضريبية المتخذة كجزء من ميزانية 2021، وزيادة تعرفة الكهرباء، ستؤدي إلى تقليل التشوهات في الاقتصاد وتسهيل ضبط أوضاع المالية العامة. لكن الصندوق حذر من أن الوضع الاقتصادي ما زال "هشاً للغاية" في ظل أزمة اقتصادية عميقة يصل فيها التضخم إلى 300% وسط نقص في السلع الأساسية.

وفي المقابل، استنكر عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، كمال كرار، حديث صندوق النقد الدولي عن حدوث إنجازات وتقدم اقتصادي قوي في السودان عقب توحيد سعر الصرف، واصفا ذلك بأنه يخالف الحقائق الموجودة في الواقع، لاستمرار معاناة الاقتصاد من الانهيار.

وقال كرار لـ"العربي الجديد" إن توجيهات الصندوق والواجبات التي طرحها على الحكومة لتطبيق الإصلاحات الهيكيلة هي إشارات مخيفة تشير لاحتمال زيادات جديدة في الكهرباء والوقود للمرة الثانية وزيادة الدولار الجمركي، ما يقود للمزيد من معاناة المواطنين.

وزاد: المعروف أن روشتة صندوق النقد تزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى، مقابل وعود بالتمويل والدعم لا تتحقق على الإطلاق، محذرا من موجة عالية مرتقبة من الغلاء في السلع وارتفاع حاد في معدلات التضخم حال شروع الحكومة في تنفيذها في الوقت الراهن.

ووصف مواطنون تحدثوا لـ"العربي الجديد" تنفيذ الحكومة السودانية لتوجيهات صندوق النقد الدولي بالظالمة والمجحفة وبأنها لا تراعي الأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعيشونها.

وقال الموظف يحيى علم الدين إن الإصلاح الاقتصادي ضروري ولكن لا بد من الاهتمام بالمواطنين وتخفيض الضغوط الحياتية التي يعانون منها طيلة الأعوام السابقة وحاليا بسبب فشل الحكومة في تحقيق متطلبات العيش الكريم والحد من انفلات الأسواق.

وتوقع علم الدين في حديثه لـ"العربي الجديد" أن تقود التوجيهات الجديدة لصندوق النقد الحكومة لفرض زيادات جديدة في السلع الضرورية والكمالية معا بسبب ما أعلنته من اتجاه لتحرير الدولار الجمركي قريبا، مشيراً إلى زيادة أسعار العديد من السلع الضرورية بنسب أكثر من 100% خلال الفترة الأخيرة.

وحملت الموظفة بالقطاع الحكومي، سندس محمود الزين، التطبيق الحكومي الأعمى لروشتة صندوق النقد الدولي مسؤولية استمرار معاناة المواطن السوداني الذي قالت إنه وصل إلى حد الكفاف بحثا عن لقمة العيش، وطالبت الحكومة بعدم تنفيذ التوجيهات الجديدة رفقا بحالهم.

ارتفاعات قياسية للتضخم

ومنذ أشهر عديدة، تشهد الأسواق السودانية ارتفاعاً متوالياً في أسعار السلع الضرورية، وندرة في الحصول على بعضها، مثل الخبز والوقود والدواء.

وقال الجهاز المركزي للإحصاء في السودان، أمس الخميس، إن التضخم السنوي قفز إلى 330.78 في المائة في فبراير/ شباط من 304.33 في المائة في يناير/ كانون الثاني، ليبلغ أعلى مستوى في عقود، إذ واصلت أسعار الأغذية والمشروبات الارتفاع. ولا يزال التضخم يزيد على المستوى القياسي البالغ 300 في المائة للشهر الثاني على التوالي.

وخفض السودان، الذي يشهد أحد أعلى معدلات التضخم في العالم، في الشهر الماضي قيمة العملة بشكل كبير في مسعى للتغلب على أزمة اقتصادية خانقة والحصول على إعفاء من الدين. فقد حدد بنك السودان المركزي، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، سعر صرف أساسياً جديداً عند 375 جنيهاً سودانياً للدولار، في خفض حاد لقيمة العملة المحلية بلغت نسبته نحو 582%، حيث كان سعر الصرف الرسمي في السابق 55 جنيهاً مقابل الدولار، فيما كان يدور سعر السوق السوداء في الآونة الأخيرة بين 350 جنيهاً و400 جنيه.

انتقادات لمطالب الصندوق

ولاقت مطالب الصندوق انتقادات واسعة في الأوساط الاقتصادية، وقال المحلل الاقتصادي ورئيس تحرير صحيفة إيلاف الاقتصادية، خالد التجاني، إن البنك طالب بعدم التراجع عن السياسات الحكومية بتوحيد سعر الصرف ورفع الدعم، وتساءل حول قدرة الحكومة على الصمود في تنفيذ هذه القرارات.

وانتقد التجاني الآثار السلبية المترتبة على الإجراءات والإصلاحات التي يدعو لها الصندوق، قائلاً: إن المواطن هو الذي يدفع ثمنها في نهاية المطاف، وهذه الإصلاحات تقود لآثار اجتماعية سالبة جدا، لافتا إلى عدم إشارة الصندوق لأي دعم لبرنامج ثمرات لتمويل الأسر المتضررة من آثار هذه القرارات. واستنكر في الوقت نفسه تأخر المساعدات التي أعلن عن تقديمها للسودان للتمكن من إجراء الإصلاحات الاقتصادية اللازمة وتنفيذ البرنامج الانتقالي.

وقال التجاني لـ"العربي الجديد" إن الجديد في توجيهات الصندوق أنه تضمن العديد من الاشتراطات ذات الصلة بفرض ولاية الحكومة على الشركات العامة (الجيش والأجهزة النظامية عموما) وإدراج إيراداتها في الخزينة العامة وهذا الشرط يعتبر إحدى المعضلات بسبب الخلافات السابقة التي دارت بين شركاء الحكومة حولها.

كما طالب الصندوق، حسب التيجاني، باستقلالية البنك المركزي، ومن الواضح ان البنك الآن لا يملك الاستقلالية ويدار عمليا عبر الحكومة وتهيمن عليه وترغمه على تسليفها وتجاوز النسبة الأساسية التي يحددها قانون البنك للاستلاف الحكومي.

وأضاف أن الصندوق طالب بأن تكون هناك لجنة مستقلة لمكافحة الفساد، مشدّدا على ضرورة إنشاء المفوضية القومية لمكافحة الفساد وإجازة قانونها.

ومن جانبه، قال المحلل الاقتصادي، هيثم فتحي، إن الاقتصاد السوداني يعيش حالة من التراجع الكبير في الأداء، حيث ارتفع انكماشه لنحو 7.2%.

وأشار فتحي في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن صندوق النقد الدولي مؤسسة غير خيرية، وإنما هي إصلاحية تعمل على ضمان استرجاع القروض من الدول التي تدينها من خلال إجراءات ومطالب من الحكومات، وتختلف هذه الإجراءات من دولة إلى أخرى وفق مقوماتها الاجتماعية والاقتصادية، ولكن في شق الإصلاحات لا تفاوض فيها.

وقال فتحي إن الحكومة الانتقالية أجازت خطة الإصلاح وتضمنت إلغاء دعم الوقود لإفساح المجال لمزيد من الإنفاق الاجتماعي، والبدء في برنامج دعم الأسر في السودان والإنفاق الصحي مع توسيع القاعدة الضريبية.

إصلاحات مطلوبة

وفي المقابل، أكد خبراء اقتصاد، حتمية وضرورة مطلوبات الإصلاح الاقتصادي التي يوجه بها صندوق النقد الدولي الحكومة السودانية وصولا لإعادة إنعاش الاقتصاد السوداني، داعين الحكومة لضرورة إتباع حزمة معالجات موازية لتقليل آثارها على المواطنين ومحدودي الدخل.

وأكد رئيس الوزراء السوداني ‏عبد الله حمدوك، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره المصري مصطفى مدبولي، أمس، أنه في خلال الـ6 أشهر الماضية بدأ السودان في تجربة للإصلاح الاقتصادي، وتم اتخاذ قرارات صعبة وكانت جراحة صعبة، وهي قرارات ليست سهلة ولكننا استفدنا من التجربة المصرية في ذلك.

ومن جانبه، أكد المسؤول في الضرائب، عادل عبد المنعم، لـ"العربي الجديد" أن السودان قطع شوطا كبيرا في تنفيذ حزمة الإصلاحات الضريبية التي طالب بها صندوق النقد الدولي الحكومة الانتقالية بزيادة ضرائب الدخل وأرباح الأعمال، مشيرا إلى فرض الحكومة زيادة على ضريبة أرباح الأعمال للأفراد والشركات للفئة العليا من 15 إلى 30% في موازنة العام المالي المنصرم 2020، غير أنها أصدرت قرارا بتجميد تنفيذها لمدة عامين لتدخل في إيرادات عام 2022 بسبب خلافات بين شركاء الحكومة حول الزيادة. وأشار إلى مضي الحكومة في تنفيذ حزم الصندوق على أرض الواقع في 2022.

وقال عبد المنعم إن "صندوق النقد يرى أن مساهمة الضرائب والجمارك في الناتج المحلي الإجمالي ضئيلة حيث بلغت نسبة 3.5% من الناتج الإجمالي في العام 2020، ويتوقع أن تصل لـ4.5% من الناتج الإجمالي في 2021 الحالي، وهو يعتبر هذه النسب ضئيلة ولا بد أن تقفز لـ15%، وبمعزل عن ذلك لن تكون هناك إصلاحات حقيقية أسوة بما يحدث بالدول الأفريقية الأخرى".

وأوضح أن الصندوق يميل لسياسة التدرج ولا يضغط على الحكومة لبلوغ النسبة الأخيرة من مساهمة الضرائب والجمارك في الناتج الإجمالي.

ونفى أثر توجيهات الصندوق للحكومة على المواطن والأسعار من خلال فرض ضرائب جديدة، مبينا أن 93% من الضرائب في السودان لا علاقة لها بأرباح الأعمال لاعتماد السودان والدول النامية الكبير على الضرائب غير المباشرة كرسوم القيمة المضافة.

وتوقع عبد المنعم أن تشرع الحكومة الانتقالية فعليا في تنفيذ التوجيهات الخاصة بتوحيد سعر الدولار الجمركي، لافتا في الوقت نفسه إلى أثر التوحيد بزيادة أسعار السلع كافة بالأسواق بتبرير إعفاء الحكومة لنحو 60% من واردات السلع الضرورية من الجمارك والقيمة المضافة مثل (القمح ـ الدقيق ـ الدواء ـ المنتجات الغذائية ـ الأسمدة ـ الكيماويات ـ السلع الرأسمالية)، ما ينفي تأثرها بأي زيادة جديدة على الدولار الجمركي، حسب الحكومة.

ولمّح لاحتمال تنفيذ الحكومة توحيد الدولار الجمركي بشكل متدرج، وسيسري القرار على 40% من السلع الكمالية.

ووصفت المسؤولة السابقة في بنك السودان المركزي، ليلى عمر بشير، في حديث لـ"العربي الجديد" توجيهات صندوق النقد الدولي بالحتمية والمهمة وبأنها من المطلوبات الرئيسة للإصلاح الاقتصادي، داعية الحكومة الانتقالية لتنفيذ حزمة معالجات لتلافي آثار تنفيذ هذه المطلوبات على الفئات الضعيفة ومحدودي الدخل بالبلاد.

وعرض صندوق النقد الدولي على الحكومة السودانية مقترحات سابقة لتلافي آثار توجيهاته والتخفيف من حدة الأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعيشها المواطنون بتعبئة الإيرادات وإجراء زيادة كبيرة في التحويلات الاجتماعية لتخفيف الآثار الإصلاحية على المجموعات الضعيفة.

المساهمون