السلام في ليبيا... ربح للجميع 

19 يوليو 2021
أرباح متعددة من إعادة الإعمار (Getty)
+ الخط -

كشف تقرير مهم صدر مؤخراً عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أنّ تحقيق السلام في ليبيا يضمن مكاسب اقتصادية لدول الجوار، قدّرها بقيمة 161.9 مليار دولار بين عامي 2021 و2025، وجاءت مصر في المقدمة بمكاسب 99.7 مليار دولار، و29.8 مليار دولار للجزائر، و22.7 مليار دولار للسودان، و9.7 مليارات دولار لتونس.

ووزع التقرير مصادر المكاسب بين مباشرة، للدول والشركات التي ستتولى إعادة الإعمار، وغير مباشرة ستنتج عن فرص العمل التي ستولدها هذه المشاريع، والتي من المؤكد عودتها بالنفع على عدد كبير من عمال الدول المجاورة ذات الكثافة السكانية المرتفعة، علاوة على مكاسب التجارة البينية، والتي تتمثل في استيعاب السوق الليبية لصادرات تلك الدول.

وهو ما يعني أنّ المكاسب الاقتصادية جراء تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا ستطاول معدلات النمو والاستثمار في هذه الدول، بالإضافة إلى تحفيز معدلات التجارة البينية، الأمر الذي سيخفّض الآثار السلبية لتداعيات انتشار فيروس كورونا على اقتصادات هذه الدول ويساهم في تسريع دوران عجلاتها الاقتصادية مرة أخرى، بالإضافة إلى تخفيض معدلات البطالة باستيعاب نسبة ليست بالقليلة من القوى العاملة، وهو ما يخفف الكثير من الضغوط السياسية والاجتماعية التي تعصف بالاستقرار في تلك الدول، ويفرغ بعضاً من شحنات الغضب الجماهيري الناتج عن إهمال الحكومات غياب تحسين الأحوال المعيشية لمواطنيها خلال سنوات ما بعد الربيع العربي.

الانقسام الليبي وأطماع القوى الاستعمارية 

بداية، يعتمد الاقتصاد الليبي بشكل رئيس على الإنتاج النفطي، وتاريخياً تمثل عائدات النفط ما يزيد عن 90% من مصادر النقد الأجنبي للبلاد، وما يزيد عن 60% من الإيرادات العامة، كما يشكل أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي، علاوة على استيعاب قطاع النفط نسبة مؤثرة من القوى العاملة في ليبيا والتي تتركز بصورة كبيرة في وظائف القطاع الحكومي.

وتشير خريطة محطات وصول النفط الليبي خلال العام الماضي إلى استحواذ أوروبا على نسبة تقارب 80% من الصادرات بسبب القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية التجارية والاستعمارية، وجودة أنواع الخام الليبي، قليل المحتوى الكربوني، مما يسهل عمليات تكريره، في حين كان نصيب آسيا نحو 14%، والباقي بين أميركا اللاتينية وأفريقيا.

شكل الدخل البترولي الضخم، وعدد السكان الضئيل في ليبيا، والمساحة الشاسعة، والقرب من القارة العجوز، بالإضافة إلى الإمكانات البترولية الضخمة من الإنتاج والاحتياطيات، علاوة على حقول الغاز الواعدة، ليس فقط في شرق المتوسط والتي يمكن للساحل الليبي أن يكون له نصيب معتبر فيها، لكن أيضاً داخل الحدود البرية، بالإضافة إلى الثروات الطبيعية الأخرى التي تزخر بها الأراضي الليبية، شكّلت جميعها من هذه الصحراء القاحلة مطمعاً للقوى الاستعمارية.

الانقسام الحاد هو نتاج طبيعي لنظام حكم القذافي الذي رسخ النزعات القبلية وأحبط أيّ محاولة لنقل الدولة إلى مصاف الدول الدستورية ذات المؤسسات، لكنّ الأطماع الاستعمارية ساهمت في تدعيم واستمرار هذه البيئة القابلة دوماً للانفجار

وزادت هذه الأطماع بعد الانقسام الليبي المسلح في أعقاب الثورة، والذي تقف خلفه قوى إقليمية ودولية باتت معروفة أطماعها في ثروات البلاد، ورغبتها في تعويض خسائر اقتصاداتها على حساب الشعب الليبي. صحيح أنّ هذا الانقسام الحاد هو نتاج طبيعي لنظام حكم القذافي الذي رسخ النزعات القبلية وأحبط أيّ محاولة لنقل الدولة إلى مصاف الدول الدستورية ذات المؤسسات، لكنّ الأطماع الاستعمارية ساهمت في تدعيم واستمرار هذه البيئة القابلة دوماً للانفجار.

نجد اليوم القوى الطامعة من إيطاليا وفرنسا وروسيا، والتي ترغب في اقتناص جزء من كعكة إعادة الإعمار، كما نجد القوة التركية الموجودة باتفاق مع الحكومة الليبية المعترف بها دولياً، علماً أنّ تركيا حققت توازن القوى ودعمت تلك الحكومة، إضافة إلى جيوش المرتزقة التي تساند الجنرال خليفة حفتر الذي مُني بهزائم متوالية، ويناوش لكي يجد موطئ قدم في ساحة المعركة.

تكلفة فادحة للانقسام الليبي 

وقد تعرّض الاقتصاد الليبي لهزة كبيرة عقب نجاح قوات حفتر في ايقاف تصدير النفط، الأمر الذي تسبب، وفق بيانات منظمة أوبك، في تقلص إنتاج البلاد من مستوى 1.1 مليون برميل تقريباً عام 2019 إلى 80 ألف برميل بحلول عام 2020، ولنا أن نستنتج أنّ ليبيا التي تشكل صادراتها النفطية 90% من إجمالي الصادرات، وأنّ عوائد تلك الصادرات في حال بلغ سعر البرميل 50 دولاراً فقط نحو 17 مليار دولار، بما يعني خسارة الاقتصاد ما يزيد عن 10 مليارات دولار، بسبب تخفيض الإنتاج وتوقفه في بعض الأحيان، علاوة على انخفاض أسعار النفط عالمياً، بسبب تداعيات فيروس كورونا، وقبلها الحرب النفطية.

ولم تتوقف خسائر الاقتصاد الليبي الناجمة عن الانقسام عند النفط، فكان من الطبيعي أن تمتد إلى تراجع كبير في سعر صرف الدينار، والذي تراجع بنحو 300% مقابل الدولار منذ بداية العام الحالي.

وفي هذا الإطار، يشير تقرير شركة "ديلويت" الإنكليزية، والتي كلفتها الأمم المتحدة بمراجعة حسابات مصرف ليبيا المركزي بشقيه في طرابلس والبيضاء، إلى أنّ احتياطيات النقد الأجنبي في ليبيا لم تنخفض منذ ديسمبر/كانون الأول 2014 سوى بنسبة 8%، وأنّ تسهيلات السحب على المكشوف واقتران ذلك بعمليات طباعة الدينار بشكل سريع، تسببا في الضغط على سعر العملة المحلية، مما أدى في النهاية إلى هذا الهبوط الضخم في قيمة الدينار. 

ودعا التقرير إلى توحيد مصرف ليبيا المركزي في طرابلس والبيضاء، لافتاً إلى أنّ انقسام المصرف يتسبب في تعقيد إمكانية الحصول على النقد الأجنبي، وعرقلة الإصلاح النقدي، فضلاً عن تقويضه نزاهة المصارف التجارية والرقابة عليها، كما أشار إلى انعكاس الانقسام على غياب الميزانية الموحدة، وتراكم الديون على كلّ من المصرفين المركزيين لتمويل الحكومات السابقة المتعاقبة. 

السلام الليبي ربح لكلّ دول الجوار 

أخطأت الإدارة المصرية بانسياقها خلف الإمارات في دعم خليفة حفتر، حتى غدت أحد أطراف المعركة.

ورغم تداركها الأمر بعد ذلك ومحاولتها التقارب مع الأطراف المختلفة، وتتويج ذلك بزيارات رسمية، في مقدمتها زيارة رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة للقاهرة، لكن يبدو أنّ استعادة دور الوسيط النزيه تحتاج إلى المزيد من الوقت لكسب الثقة المفقودة.

كما أنّ انكفاء الجزائر على مشاكلها الداخلية والتي باتت تتعاظم في ظلّ أزمة السلع الغذائية الرئيسية، وتداعيات فيروس كورونا، أخرت كثيراً التشابك المكثف مع الشأن الليبي، والذي من المنتظر أن يلعب دوراً في تخفيف الأزمة الاقتصادية في الدولة.

عدّد تقرير "إسكوا" المكاسب الاقتصادية لدول الجوار جراء تحقيق السلام في ليبيا، وبيّن أنّ الربح منه للجميع، لكن ما زالت هذه الدول غائبة عن التدخل الحقيقي الفاعل لتحقيق هذا السلام

وبالمثل، انكفأ التونسيون على أوضاعهم الداخلية، وبدأوا رحلة مفاوضات فاشلة حتى الآن مع صندوق النقد الدولي، واضطروا إلى تغيير المسار والبحث عن مصادر تمويلية بديلة لمواجهة أزمتهم الاقتصادية الخانقة.

وأخيراً، فإنّ حالة السيولة في السودان، وانشغالها بأزمة سد النهضة، علاوة على الأوضاع الداخلية البائسة، ربما لم تجعل الملف الليبي يبرز مطلقاً حتى الآن في التحركات السودانية.

عدّد تقرير "إسكوا" المكاسب الاقتصادية لدول الجوار جراء تحقيق السلام في ليبيا، وبيّن أنّ الربح منه للجميع، لكن ما زالت هذه الدول غائبة عن التدخل الحقيقي الفاعل لتحقيق هذا السلام، لا سيما أنّ الطرف المعرقل له دُعم لفترة طويلة من بعضها، ويمكنها التأثير عليه، ومن هنا يجب مناداة هذه الدول بمساعدة الأطراف الليبية على الوصول إلى السلام والاستقرار، ليس فقط حباً في الشعب الليبي وسعياً لتحقيق مصالحه، لكن أيضاً لمصلحة هذه الدول نفسها، والتي ستجني الكثير من المكاسب.

المساهمون