أصبحت السعودية حديث الساعة خلال الشهرين الماضيين، ليس بسبب النفط هذه المرة، بل من باب الملاعب والصفقات الرياضية، مع دخول صندوق الثروة السعودي للمنافسة على أفضل اللاعبين العالميين بهدف جذبهم إلى الدوري السعودي المحلي، ما أثار استياء الأندية الأوروبية من هذا اللاعب الجديد الذي خطف خدمات 15 لاعباً لصالح أنديتها المحلية، مثل الاتحاد والأهلي والنصر والهلال.
وأصبحت مباريات الدوري السعودي وأهدافها؛ متداولة على هواتف الشباب في أنحاء العالم، في محاولة لتغيير الصورة النمطية عن هذه الدولة النفطية.
والحق يُقال إن العالم لم يعتد أن تنافس السعودية في أسواق الرياضة والسياحة والترفيه، إذ ظهرت برامج تروّج للسياحة في المملكة، بعد تأهيل مناطق سياحية وبناء أماكن ترفيهية وإقامة حفلات ومعارض واستضافة المشاهير.
لنتناول الموضوع من زاوية اقتصادية، بعد تسجيل البلاد خلال عام 2022 إيرادات غير نفطية بقيمة 411 مليار ريال، فهل ودعت المملكة عهد الاعتماد على النفط؟
تنويع مصادر الدخل
على مدار العقود الماضية، طغت صناعة وتجارة النفط على كل شيء في بلد يمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، حيث بلغ 267.19 مليار برميل في عام 2022 خلف فنزويلا.
واستناداً إلى مخاوف نضوب هذه الثروة، صممت الحكومة برنامجاً على المدى المتوسط والبعيد يسعى لتحويل البلاد إلى نموذج اقتصادي جديد، وهو تحدٍ كبير لا مفر من النجاح فيه، وتظل القضية الرئيسية التي تواجه الحكومة هي كيفية تمويل الموازنة بعيداً عن إيرادات النفط؟
على سبيل المثال، تأتي إيرادات الموازنة الألمانية من مصادر متعددة، أبرزها وأكبرها الضرائب، وتشمل ضريبة القيمة المضافة، وضرائب الدخل، وضرائب الشركات، ومن ثم هناك الرسوم والغرامات، إضافة إلى الإيرادات المتأتية من الأصول والممتلكات الحكومية، وإيرادات من الاتحاد الأوروبي.
وفي النرويج، والتي تعد دولة نفطية بامتياز، استطاعت تجنيب اقتصادها مخاطر الاعتماد على الخام فقط، من خلال تدوير إيرادات النفط في استثمارات عامة عبر صندوق الثروة السيادي، الذي يستثمر في أكثر من 80 بلداً حول العالم.
تأتي إيرادات الموازنة النرويجية من عائدات النفط والغاز، وعائدات صندوق الثروة السيادي، إلى جانب الضرائب التي تشمل ضرائب الدخل والشركات والقيمة المضافة، والرسوم والغرامات المتنوعة.
لتحقيق عوائد مالية عالية من ضرائب الدخل والشركات، يتعين على المواطن السعودي أن يحقق دخلاً مرتفعاً، وعلى الشركات أن تتوسع، وتستثمر، وتحقق أرباحاً ضخمة. فزيادة إيرادات الحكومة من الضرائب تتناسب طردياً مع نمو دخل المواطن وأرباح الشركة.
ولضمان هذا، تصبح أولوية الحكومة تطوير القطاع الخاص بشكل شامل، دعم البنية التحتية، تسهيل الإجراءات القانونية، تشجيع المواطنين على العمل، وتحفيز الشركات على الاستثمار. ومن الضروري جذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير قطاع التعليم ليتوافق مع احتياجات القطاع الخاص.
هنا تُفهم تحولات السعودية وخطواتها الأخيرة، حيث أصبح استخدام كلمات مثل "الرياضة" و"الترفيه" و"التقنية المالية" و"الاستثمار" وغيرها أكثر بروزاً من كلمة "النفط". وأصبح همّ المملكة تحسين الأطر الضريبية، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار والتوسع، وحث السكان على العمل وريادة الأعمال والاستعداد للمخاطرة، وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، وتغيير سلوك المستهلك، وتعزيز الإنتاجية والكفاءة.
هل تحقق المطلوب؟
في الواقع، إن أية إصلاحات اقتصادية جديدة في المملكة سيكون لها تأثير مباشر على الموازنة، نظراً للتأثير المرتفع للنفط، مقارنة بالقطاعات غير النفطية في السابق. ويكمن التحدي في الحفاظ على هذا التأثير على المدى الطويل وجعله استراتيجية قابلة للتطور بشكل مستقل من دون الحاجة لتدخل مستمر من الحكومة.
وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي الصادر في شهر أيلول 2023، تناقصت المساهمة النفطية في مختلف قطاعات الاقتصاد السعودي، حيث بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي 4.9% في عام 2023، ومن المتوقع استمرار ارتفاعه في عام 2024.
ووصلت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي إلى 41%. وأوضح التقرير أن المملكة تقدمت في تنويع اقتصادها من خلال تقليل اعتمادها على النفط، حيث ازدادت الإيرادات غير النفطية بمقدار الضعف. وأصبحت المملكة بين الدول الأسرع نمواً في مجموعة العشرين، مع معدل نمو بلغ 8.7% مقارنة بالعام السابق.
على مستوى الصناعة، تم التوجه نحو وقف التوقيع مع الشركات الأجنبية التي لا تملك مقراً إقليمياً داخل المملكة، وذلك ابتداء من كانون الثاني 2024. وتطمح الحكومة السعودية إلى نقل 480 مقراً إقليمياً إلى الرياض على مدار 10 سنوات، وأعلنت في 25 أكتوبر الماضي منح تراخيص لأكثر من 80 شركة عالمية لنقل مقراتها الإقليمية إلى العاصمة الرياض.
فيما يخص توطين الصناعات الغذائية، والتي بلغت وارداتها 70 مليار ريال سنوياً، تم الاستثمار في هذا القطاع بنحو 110 مليارات ريال، أي ما يعادل 30 مليار دولار، تمثل 7.6% من إجمالي حجم الاستثمارات في القطاع الصناعي.
وجذبت المملكة استثمارات من شركات عالمية رائدة، من بينها "جنرال إلكتريك" لتصنيع رؤوس آبار النفط، و"إيسوزو" لصنع سيارات النقل الخفيفة، و"إيبارا" لإنتاج مضخات المياه، و"شلمبرجير" لإنتاج رؤوس حفر الآبار، و"هنكل" لتصنيع المواد الكيميائية. كما استقطبت استثمارات من شركة "سيمنس" الألمانية لتصنيع التوربينات الغازية ولوحات التحكم الآلي، بالإضافة إلى الصناعات الدوائية لشركة "فاركو إنترناشيونال العالمية"، وشركة "سكاي جروب" الصينية المتخصصة في معالجة الصخور والمعادن النوعية. وهناك محادثات مع شركة تسلا الأميركية لإقامة مصنع للسيارات الكهربائية في المملكة.
ويسعى صندوق الثروة السعودي إلى تنفيذ خطة مشابهة لصندوق الثروة النرويجي، مبنية على تحصيل أسهم في شركات عالمية في مجالات متنوعة، حيث امتلك الصندوق حصة قيمتها 8.9 مليارات دولار في شركة صناعة السيارات الكهربائية "لوسيد"، وحصة بقيمة 3.2 مليارات دولار في شركة ألعاب الفيديو "أكتيفجن بليزارد"، وحصة بنسبة 8.6% في "نينتندو"، و38% في "بوسكو" لصناعة الصلب الكورية الجنوبية، ولديه 5% في شركة "أوبر" قيمتها 3.5 مليارات دولار.
واستحوذت وحدة "ساڤي" التابعة لصندوق الثروة السعودي على حصة في "إمبريسر غروب"، واشترت حصة في قسم الرياضة الإلكترونية ضمن شركة "موديرن تايمز غروب" بقيمة 1.05 مليار دولار.
انطلقت استثمارات الصندوق في الرياضات الإلكترونية استناداً إلى وجود نحو 21 مليون لاعب في المملكة، ما يمثل نحو 58% من عدد السكان، مقارنة بـ66% في الولايات المتحدة. وتسعى السعودية أن تصبح مركزاً ترفيهياً عالمياً.
تشهد صناعة الرياضة مساعي مكثفة لإعادة هيكلة القطاع، مع تركيز خاص على تعزيز التنافسية وجذب نجوم كبار من عالم كرة القدم إلى الأندية السعودية. وتوجه لبناء العلامات التجارية لهذه الأندية، بغية طرح حصص منها للاستثمار. بالإضافة إلى صفقات في قطاع الرياضة، مثل صفقة دمج بطولة "إل آي في" للغولف الجديدة مع جولة "بي جي أيه" الأميركية، وشراء نادي نيوكاسل في إنجلترا.
وفي إطار التوسع في قطاع الترفيه، تتمثل بعض المشروعات الرئيسية في مدينة القدية الترفيهية، مشروع البحر الأحمر، مشروع أمالا، وحديقة الملك سلمان قلب الرياض الأخضر. وشهد قطاع الأنشطة والخدمات نموا ملحوظا بنسبة 13%، ويضم مجموعة من الأنشطة الفرعية، منها الرياضة، الترفيه، الثقافة، والترويج للسياحة الداخلية وجذب السياح الدوليين.
أما في قطاع التقنية المالية، أو ما يعرف بالصناعة المالية، فتشمل مجموعة واسعة من الأعمال والمشاريع في التعليم، والخدمات المصرفية، والتأمين، والإقراض، والمدفوعات عبر الإنترنت، وتطبيقات التوفير والميزانية، والصرف الأجنبي والتحويلات، والتمويل، والتكنولوجيا التنظيمية، والاستثمار، والعقارات، والتجارة الإلكترونية.
في نهاية عام 2022 بلغ عدد الشركات العاملة في هذا المجال 147 شركة، وبلغت القيمة التراكمية لاستثمار المال الجريء 742 مليون ريال في عام 2023، وقيمة مساهمتها في الناتج المحلي 2.211 مليار ريال، وساهمت بـ 3045 وظيفة مباشرة، كما بلغ عدد العملاء النشطين في المملكة ضمن هذا القطاع 8.6 ملايين عميل في عام 2022، وقيمة الودائع في المحافظ الإلكترونية حتى نهاية عام 2022 نحو 69.8 مليار ريال.
تسير السعودية بخطى متسارعة نحو تنويع اقتصادها وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، وهي لا شك خطوات مهمة، لكن الأهم الآن هو تمكين القطاع الخاص وحوكمته، وطريق فض النزاعات بين الشركات ومراكمة القيمة المالية فيه وتقوية موقفه في الفضاء الاقتصادي العام.