دخل الاقتصاد الألماني في حالة ركود اقتصادي هي الأولى منذ جائحة كوفيد-19، وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا، في نهاية أيار/مايو الماضي، أن اقتصاد البلاد انكمش بشكل طفيف في الربع الأول من عام 2023 مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة، وبذلك يدخل في حالة ركود.
ولم يكن سقوط الاقتصاد الألماني في الركود بالأمر المفاجئ، إذ أن أغلبية البيانات السابقة كانت تدل على توجه أكبر اقتصاد في أوروبا إلى الانكماش، خاصة مع خسائر الاقتصاد وأنشطته المختلفة الفادحة بسبب تداعيات حرب أوكرانيا الكارثية، وتفاقم أزمات التضخم والوقود وسلاسل التوريد، والعقوبات الغربية الروسية، واستمرار تشديد البنك المركزي الأوروبي سياسته النقدية ورفع سعر الفائدة على اليورو، وهو ما رفع تكلفة الأموال بالنسبة لقطاع الأعمال.
ويُعرف الركود الاقتصادي بأنه انكماش الاقتصاد لفترة تمتد لربعين متتالين، وكانت بيانات الاقتصاد الألماني قد أظهرت أن الناتج المحلي الإجمالي شهد كسادا في الربع السابق، وأن ألمانيا بالكاد تجنبت الركود، وهو الأمر الذي تحقق في الربع الأول من العام الحالي.
أسباب معاناة الاقتصاد الألماني المرحّلة منذ أزمة كورونا والتي تعمقت بعد الحرب الأوكرانية، هي ذات الأسباب التي تعاني منها منطقة اليورو
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسباب معاناة الاقتصاد الألماني المرحّلة منذ أزمة كورونا والتي تعمقت بعد الحرب الأوكرانية، هي ذات الأسباب التي تعاني منها منطقة اليورو بصورة عامة، وإن تفاوتت بالطبع حدتها من بلد أوروبي إلى آخر، وهو الأمر الذي يشير إلى أن الاقتصاد الأوروبي ينتظر عاما صعبا، وأن انكماش الاقتصاد الألماني ربما يكون مقدمة لإعلان سلسلة من الانكماشات والركود لكبرى الاقتصادات الأوروبية.
إفلاسات وتعثر لقطاع الأعمال
تشير بيانات مكتب الإحصاء الألماني إلى أن الناتج المحلي الإجمالي انخفض 0.3%، بعد تراجع بنسبة 0.5% في الربع الرابع من عام 2022، ويرجع ذلك إلى استمرار معدلات التضخم المرتفعة، والتي تسببت في انخفاض الاستهلاك العائلي، والذي تراجع 1.2% على أساس فصلي.
كما نتج الانكماش الألماني عن ارتفاع أسعار الطاقة في أعقاب أزمة الحرب الأوكرانية، وهو الأمر الذي أدى إلى خروج العديد من الاستثمارات من ألمانيا، وتوقف العديد من أنشطة الصناعات، وإفلاس العديد من الشركات، وهو الأمر الذي أثر بصورة كبيرة على القطاع الصناعي، وفي خاصرته الأهم صناعة السيارات.
وتراجع الإنتاج الصناعي الألماني أكثر مما كان متوقعًا في مارس، بسبب الانخفاض الكبير في صناعة السيارات. ووفق الأرقام التي نشرتها وكالة الإحصاء الفيدرالية "ديستاتيس"، فقد انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 3.4%، بالمقارنة مع نمو كان قد سجله في الشهر السابق بلغ 2.1%، بعد شهرين من نمو قوي في يناير وفبراير.
وكانت صناعة السيارات مساهماً رئيسياً في التراجع خلال مارس، حيث انخفضت عمليات تصنيع السيارات وقطع الغيار بنسبة 6.5%، بالمقارنة مع زيادة 6.9% في فبراير، كما كان هناك انخفاض كبير في عمليات تصنيع الآلات والمعدات، وكذلك تراجع الإنتاج في قطاع البناء.
كما أظهرت البيانات انخفاضا مفاجئا في الطلبيات الجديدة في المصانع الألمانية، حيث تراجعت الطلبيات بأكبر قدر منذ وباء كورونا، بنسبة 10.7% في مارس الماضي، وهو أعلى من توقعات كافة الاقتصاديين، في استطلاع أجرته بلومبيرغ، والذي رجح تراجعه بنسبة 2.3% فقط، وتجلى تراجع الطلبيات بشكل خاص في صناعة السيارات وقطع الغيار.
وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد الألماني كسائر الاقتصادات الأوروبية يعاني من التشديد النقدي الذي اتبعته البنوك المركزية حول العالم لمحاصرة التضخم، والذي أثر سلبيا على مستويات الاستهلاك أوروبيا وعالميا، وأحد العوامل الهامة التي أفقدته إمكانات النمو، وهو الأمر الذي سينعكس سلباً على كافة شرائح المجتمع، من خلال انخفاض القدرة الشرائية وارتفاع معدل البطالة وتراجع الإنفاق الاستهلاكي للأسر.
الاقتصاد الألماني كسائر الاقتصادات الأوروبية يعاني من التشديد النقدي الذي اتبعته البنوك المركزية حول العالم لمحاصرة التضخم
ولا تتوافق حالة الركود التي يمر بها الاقتصاد الألماني مع توقعات الحكومة بحدوث نمو إيجابي بنسبة 0.4% للعام الحالي كاملا، ولا مع إصرار وزارة الاقتصاد على أن معنويات قطاع الأعمال تتحسن في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يشير إلى انتعاش اقتصادي خلال ما تبقى من العام، ولا تتماشي التوقعات المتفائلة كذلك مع توقعات المفوضية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي التي ترى أن أداء ألمانيا، أكبر قوة اقتصادية في الاتحاد، سيكون الأسوأ على مستوى التكتل، حيث يرجح أن يسجل انكماشا نسبته 0.6% العام المقبل، وأن المعاناة الاقتصادية ستمتد إلى دول التكتل ككل.
رفع الفائدة يعرقل اقتصاد اليورو
في إطار محاربة التضخم، وفي أول تخفيف لوتيرة زيادة الفائدة منذ ديسمبر الماضي، رفع البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، في مطلع مايو الماضي، لتصل إلى مستوى 3.75%، في زيادة هي السابعة على التوالي منذ العام الماضي، وقد رفع البنك السعر في ديسمبر وفبراير ومارس بمقدار نصف نقطة مئوية لكل شهر، وأعلن أن خياراته بشأن توجهات الفائدة مفتوحة مع استمرار معركته لمكافحة التضخم، إلا أنه لم يذكر ضرورة الحاجة إلى تطبيق زيادات أخرى.
وأظهرت التقديرات الأولية الصادرة عن مكتب الإحصاءات الأوروبي "يوروستات"، تباطؤ معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو إلى 6.9% في مارس الماضي، مقارنة بمستوى 8.5% في فبراير السابق. وعلى الرغم من تباطؤ معدلات التضخم الأوروبي تأثرا بالتشديد النقدي المستمر، إلا أن اقتصادات دول الاتحاد عانت من الآثار السلبية لرفع سعر الفائدة، وفي مقدمتها انخفاض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وقد حذّر المفوض الاقتصادي للاتحاد الأوروبي من أن "أشهرا صعبة" في انتظار دول التكتل، التي ترزح أصلا تحت وطأة الهزّات الاقتصادية التي سببتها الحرب في أوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الطاقة، وسدد ضربة موجعة للقدرة الشرائية للمستهلكين في ربوع القارة، وحذر من "احتمال حدوث اضطرابات اقتصادية إضافية نتيجة الحرب الروسية لم ينته".
قالت المفوضية الأوروبية إنه وفي ظل ضبابية الوضع والغلاء، يتوقع أن تدخل منطقة اليورو في ركود خلال الفصل الأخير من العام الحالي
كما قالت المفوضية الأوروبية إنه وفي ظل ضبابية الوضع والغلاء، يتوقع أن تدخل منطقة اليورو في ركود خلال الفصل الأخير من العام الحالي.
وأضافت "في وقت تواصل الرياح المعاكسة القوية الحد من الطلب، يتوقع أن يكون النشاط الاقتصادي ضعيفا، مع بلوغ نمو إجمالي الناتج الداخلي 0.3% عام 2023".
وبذلك يمكن القول إن دول الاتحاد الأوروبي ليست بعيدة عن سيناريو الركود الألماني، كما أن سياسات التشديد النقدي تسببت ضمن عوامل أخرى في تباطؤ النمو والإنذار بالانكماش، لكن ذلك لا يعني حتمية سيناريو الركود، خاصة في ظل إبطاء زيادة معدل الفائدة وإمكانية التدخل الحكومي عبر سياسات مالية تخفض نسبيا من الآثار السلبية لرفع سعر الفائدة علي النمو الاقتصادي، سواء في ألمانيا أو في بقية الدول الأوروبية.