تعاني الدول الغربية التي تتبع النظم الديمقراطية والاقتصاد الرأسمالي من أزمات حادة خلال العقود الأخيرة، حيث يتزايد الغضب والغبن بين مواطنيها من فشل النظام الرأسمالي في تحقيق أهداف العدل والمساواة والحريات الفردية والرخاء الاقتصادي.
ورغم أن هذه الدول تمكنت من تجاوز التداعيات السلبية لأزمات المال وجائحة كورونا دون الوصول لمرحلة الانهيار ولكن حدث ذلك بكلف مرتفعة جداً على مستقبل الاقتصادات الرأسمالية وتماسك النسيج الاجتماعي وضعف النظم الديمقراطية.
وتواجه هذه الدول حالياً تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا التي رفعت من معدل التضخم ولاتزال تهدد الاقتصادات الغربية بالركود وسط الفائدة المرتفعة وأزمة المصارف في الولايات المتحدة التي تعني عملياً تراجع تمويلات البنوك للأعمال الصغيرة ومنح التسهيلات المالية لأفراد المجتمع وسط ارتفاع معدلات التضخم، ما يؤدي تباعا إلى تفاقم فروقات الدخول بين الطبقات وتنذر بانقسام حاد في المجتمعات.
ويرى محللون أن اتساع الفجوة في الدخول في أميركا وأوروبا ينذر بصعود الحركات الشعبوية والجماعات المتطرفة والعنصرية خلال السنوات المقبلة، وهو ما يعني مزيداً من الاضطراب السياسي والاجتماعي والفوضى ضد النظم الحاكمة.
وترى دراسة في منتدى "نيو فاينانشال" العالمي، أن مؤسسات الديمقراطية في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تعيش مرحلة من الهشاشة، حيث يخوض النظام السياسي الأميركي معركة شرسة مع الحركات اليمينية والفاشية الجديدة الصاعدة والنقابات بسبب هبوط مستويات المعيشة للطبقات ذات الدخل المنخفض.
الأموال الوهمية وأزمة الطبقة الوسطى
تتوقع دراسة أجراها كل من الخبيرين ديفيد كيشور ووديفيد نورث في موقع "ويرلد سوشيلست"، إلى أن الوضع الاقتصادي والمالي غير المستقر في الدول الغربية بسبب الفائدة المرتفعة والأموال الوهمية التي تتدفق على الأثرياء واعتماد الدول الديمقراطية على معالجة الأزمات المالية عبر ضخ السيولة أو ما يطلق عليه " التيسير الكمي"، بات من المهددات الخطيرة خلال العقد الجاري.
حيث أدت سياسة "التيسير الكمي" في أعقاب "صدمة فولكر" بالولايات المتحدة في عام 1979، وهي الفترة التي رفع فيها مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) في عهد رئيسه بول فولكر، أسعار الفائدة بشكل أدى إلى ركود اقتصادي حاد وزيادة البطالة في المجتمع الأميركي. وهي ذات السياسة التي تنفذ حالياً لحل أزمات المال العالمية في أعقاب الأزمة المالية بالعام 2008 وفي اعقاب جائحة كورونا.
ونفذت الدول الرأسمالية منذ أزمة المال العالمية وحتى نهاية جائحة كورونا سياسة أسعار الفائدة المنخفضة التي أدت إلى تحويل الأموال إلى الأسواق المالية وتضخيم قيمة الأصول في أسواق المال العالمية.
وكانت النتيجة ارتفاع ثروة الأثرياء الذين يملكون المال للاستثمار في البورصات على حساب الفقراء وذوي الدخول المنخفضة والطبقات الوسطى التي تعتمد على الاقتراض لتلبية احتياجاتها المعيشية. وهو ما زاد من تفوت الدخول وغبن الطبقات ذات الدخل المنخفض. ويرى محللون أن هذه السياسة صممت لإنقاذ االأثرياء على حساب الطبقات الفقيرة والوسطى.
ففي الأزمة المالية العالمية في العام 2008، اشترى البنك الفيدرالي الأميركي سندات الشركات لمنعها من الانهيار. وأدى ذلك إلى تضاعف الدين الأميركي فعليًا بين عشية وضحاها لتمويل شراء مئات المليارات من الدولارات من أصول المضاربة من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي.
وتكرر ضخ الأموال هذا على نطاق أوسع في عام 2020 خلال الأشهر الأولى لوباء كورونا، مما دفع قيم الأسهم إلى مستويات قياسية وسط الموت الجماعي والبؤس الاجتماعي جراء الوباء.
وأدت سياسة الطبقة الحاكمة في الديمقراطيات الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، إلى تضخيم الأصول المالية من خلال طباعة النقود، مع الحفاظ على الأجور المنخفضة للطبقات ذات الدخل المنخفض وزيادات ثروات النخب المالية والشركات التي باتت تتاجر في المضاربة بالمال على المال في البورصات التي انفصلت بشكل متزايد عن عملية الإنتاج الفعلية.
وتمثل هوس المضاربة في أقصى أشكاله في نشوء سوق العملات المشفرة، الثروات الوهمية، أو رأس المال الوهمي والتي تزايدت قيمتها بشكل جنوني، حيث ارتفع سعر عملة بيتكوين الرقمية إلى 64 ألف دولار في ذروته في العام 2021، وبلغت قيمتها السوقية 3 تريليونات دولار.
ووصلت سياسة التيسير الكمي والأموال الوهمية إلى طريق مسدود في العام الماضي 2022، حيث تعرض الاقتصاد العالمي لأعلى مستويات التضخم النقدي في أربعة عقود، نتيجة عمليات طباعة النقود للبنوك المركزية. واستجابت البنوك المركزية بأسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها منذ أوائل الثمانينيات.
ومع ذلك، فإن الإجراءات المتخذة لخفض التضخم لم تنجح حتى الآن في حل أزمات الاقتصاد وفي المقابل أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وزادت من حدة التوترات الاجتماعية التي تؤدي إلى تصاعد الصراع الطبقي.
على الصعيد المالي، كان لرفع أسعار الفائدة بالفعل تأثير كبير على الأسواق المالية، حيث تراجعت البورصات الأميركية والأوروبية، فقد انخفضت بورصة ناسداك بنسبة 35% تقريبًا خلال العام الماضي، حسب بيانات "وول ستريت". بينما انخفض مؤشر "S&P 500" بنسبة 20.6% و"داو جونز" الصناعي 9.5%.
كما انخفضت القيمة السوقية لشركات مثل "تسلا" لصناعة السيارات الكهربائية و"غوغل" و"أمازون" و"مايكروسوفت" في قطاع التكنولوجيا والعديد من الشركات الأخرى التي ازدهرت بسبب المضاربة. كما انخفضت كذلك القيمة الإجمالية لسوق العملات المشفرة بأكثر من 60% من 2.3 تريليون دولار إلى ما يزيد قليلاً عن 800 مليار دولار.
وتتزايد المؤشرات على أن الاقتصاد العالمي سيدخل في حالة ركود خلال العام الجاري. وتوقع صندوق النقد الدولي مؤخراً أن ينخفض النمو العالمي إلى 2.7% هذا العام، وهو أدنى مستوى نمو منذ عام 2001، باستثناء أزمة 2008-2009 والسنة الأولى للوباء.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كتبت مجلة الإيكونوميست، أن الركود العالمي في عام 2023 أمر "لا مفر منه"، مستشهدة بتأثير "الأزمة الدائمة" الناجمة عن الصراع الجيوسياسي، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، و"فقدان الاستقرار الاقتصادي الكلي" بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.
وحسب منظمة العمل الدولية فإن ارتفاع معدلات التضخم ستكون له أثار مدمرة على الظروف المعيشية للعمال في جميع أنحاء العالم، حيث انخفضت الأجور الحقيقية بنسبة 1% تقريباً في 2022، مما يمثل أول انخفاض عالمي منذ عقود.
وفي الاتحاد الأوروبي بلغ معدل التضخم على أساس سنوي 11.5% في العام الماضي وانخفضت الأجور الحقيقية بنسبة هائلة بلغت 2.4% في النصف الأول من عام 2022. ومع انخفاض الأجور الحقيقية، استمرت إنتاجية العمل في النمو مما يشير إلى أن غبن الطبقة العاملة وصل إلى مستويات غير مسبوقة، يخشى معها محللو الشركات أن تثير الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية وتهيمن الفوضى على المشهد السياسي في العام الجاري.
ويشير تحليل نشرته وكالة بلومبيرغ الأميركية اخيراً، إلى أن الغبن وسط العمال والطبقات ذات الدخل المنخفض ينذر بمزيد من الاضطرابات العمالية وسط ارتفاع التضخم وأرباح الشركات المتزايدة.
صعود الشعبوية في العالم
يسود العالم الغربي حالياً تراجع الأسس الديمقراطية وتزايد النفوذ السياسي للحركات اليمينية المتطرفة والفاشية التي باتت ظاهرة عالمية. ففي إيطاليا، تولى إخوان إيطاليا، خلفاء الحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية، ورثة الديكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني، السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي برئاسة رئيس الوزراء جيورجيا ميلوني.
وفي فرنسا، فازت المرشحة الفاشية الجديدة، مارين لوبان، بنسبة 45% من الأصوات في انتخابات الإعادة ضد إيمانويل ماكرون في مارس/آذار من العام الماضي. وفي ألمانيا، حيث كانت الديكتاتورية النازية مسؤولة عن أسوأ جرائم القرن العشرين، جرى الكشف في ديسمبر/ كانون الأول عن مؤامرة إرهابية فاشية للاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية.
ولاحظ محللون أن الحكومات أضفت الشرعية السياسية في جميع أنحاء أوروبا على الأحزاب الفاشية، حيث قدمت دعماً سياسياً لتعزيز النزعة العسكرية والتخلي عن تدابير الحريات العامة وشًرعت لتبرير الهجوم على المهاجرين واللاجئين ومحاصرة احتجاجات النقابات العمالية.