تقوم شرعية الحكومات، في الولايات المتحدة وأوروبا والدول الحديثة، على أساس ثقة المواطنين فيها، سواء من ناحية الأداء، أو من ناحية دقة وشفافية المعلومات التي تقدمها لهم تلك الحكومات، خاصة فيما يخص الأوضاع الاقتصادية، التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة تمسهم بصورة مباشرة، وتؤثر عليهم، أكثر مما كانت تفعل قبل ثلاثة عقود أو أقل.
وتقول مؤسسات التنمية الدولية إن ثقة المواطن في حكومته أصبحت ضرورية لضمان نجاح مجموعة واسعة من السياسات العامة التي تعتمد على الاستجابات السلوكية من الشعوب.
فمثلاً، تؤدي ثقة أفراد الشعب في حكومتهم إلى امتثال أكبر لمتطلبات الصحة العامة واللوائح والنظم الضريبية التي تفرضها الحكومة. وعلى المدى الطويل، هناك حاجة إلى الثقة لمساعدة الحكومات على مواجهة التحديات المجتمعية طويلة الأجل مثل تغير المناخ، وشح مصادر الطاقة، وشيخوخة السكان، وتحديات سوق العمل.
الحكومة تستعد لتخفيض جديد في قيمة العملة، وهو ما يثير ذعر المصريين، خوفاً من التعرض لما تعانيه دول، مثل لبنان وباكستان وسريلانكا، من صعوبات اقتصادية مدمرة
وفي مصر، فاجأنا المحافظ الجديد للبنك المركزي حسن عبد الله، الأسبوع الماضي، بإعلانه الجدول الكامل لاستحقاقات الديون الخارجية، التي تضخمت لأعلى مستوياتها في التاريخ، متجاوزة 157 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الجاري (مارس/آذار 2022)، والتي تسببت مع أزمة العملة المصرية التي فقدت عشرين بالمائة من قيمتها خلال الشهور الستة الأخيرة، وتستعد وفقاً للعديد من المؤسسات الدولية المرموقة لتخفيض جديد، في إثارة ذعر المصريين، خوفاً من التعرض لما تعانيه بعض الدول، مثل لبنان وباكستان وسريلانكا، من صعوبات اقتصادية مدمرة لأحوال المواطنين.
كانت بادرة طيبة من المحافظ الجديد، كوننا كمصريين لم نعتدها، على الأقل في السنوات الأخيرة، التي ساءت فيها أحوال العباد، وانتشر الفقر في البلاد، وبقيت فيها الحكومة في وادٍ والمواطنون في واد.
وخلال تلك السنوات جرى التعامل معنا على أساس أن هذه الأمور ليست مما ينبغي أن يتناقش فيه إلا المواطن المتخصص (أنت دارس الكلام اللي بتقوله ده)، وأن هناك بعض الموضوعات لا ينبغي مناقشتها أصلاً (أرجو إن الموضوع ده مانتكلمش فيه تاني)، وأن قلق المواطنين من الأوضاع المعيشية يجري التعامل معه من منطلق (بلاش هري)، وأخيراً، (أوعى تحط رجل على رجل وتتكلم في موضوع أنت ما تعرفوش).
ولا يبدو بقية أعضاء الحكومة من مؤيدي الفكر التصارحي للمحافظ الجديد، حيث لم تتوقف التصريحات المضللة عن الصدور، رغم النتائج الكارثية التي جاءت بعد سنواتٍ أمسكوا فيها بزمام الأمور، وأخفوا عنا أغلب ما يتعلق بحقيقة الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
والأسبوع الماضي، نقلت العديد من المواقع الإخبارية الموالية للنظام المصري، أو الواقعة تحت سيطرة أذرعه السيادية، عن وزير المالية محمد معيط قوله إنه "لا توجد أي أزمة في العملات الأجنبية، وأنها متواجدة في سوق النقد بوفرة".
ومن ناحية أخرى، كانت هناك تصريحات من محمد الإتربي، رئيس بنك مصر، ثاني أكبر البنوك المملوكة للدولة، ورئيس اتحاد بنوك مصر، شدد فيها على توفر السيولة لدى البنوك، مطمئناً المواطنين بأن "الدولار متوفر في كل البنوك".
تشهد البنوك ما يشبه التوقف التام عن بيع العملة الأجنبية للعملاء، وفرض قيود كبيرة على توفير العملة للمستوردين، مع عودة السوق الموازية للظهور
وتأتي تلك التصريحات في وقتٍ تشهد فيه البنوك ما يشبه التوقف التام عن بيع العملة الأجنبية للعملاء، وفرض قيود كبيرة على توفير العملة للمستوردين، مع عودة السوق الموازية للظهور، وحدوث تعاملات بكميات ضخمة فيها، وعند مستويات تقلل من قيمة الجنيه مقابل الدولار بنسبة تقترب من عشرة بالمائة، مقارنة بالأسعار الرسمية المعلنة في البنوك المصرية.
كلام المسؤولَين المصريَين يحتمل معنى واحداً من اثنين، وربما كلاهما. فإما أنهما لا يعلمان أن توفّر العملة على النحو الذي ذكراه يمنع بالتأكيد ظهور السوق الموازية، أو أنهما يحاولان خداعنا!
الأمر نفسه يسري على ما أقسم به وزير المالية مؤخراً من أن صندوق النقد الدولي لم يطلب من مصر رفع الدعم الحكومي أو إلغاء أي مبادرات مجتمعية، ولم يفرض تخفيض قيمة العملة المصرية، للتوصل إلى اتفاق تحصل مصر بموجبه على القرض الجديد الذي طال انتظاره.
وفي هذه، وبمنتهى الصراحة، فإني أصدق وزير المالية. لم يطلب صندوق النقد أبداً إلغاء دعم السلع أو دعم الخبز أو دعم وقود السيارات، ولم يطلب إيقاف أو إلغاء المبادرات، ولم يطلب تخفيض سعر الجنيه مقابل الدولار، فهم أذكى من ذلك كثيراً.
لكن صندوق النقد يقول أشياء أخرى، مثل أنه يفترض "ضبط المالية العامة في البلاد" قبل الحصول على القرض.
فإذا كان بند نفقات الدولة باتجاه خدمة الدين العام مما يخرج عن سيطرة الحكومة المصرية، بسبب ارتباطه بعقود سابقة أُبرمت عند الحصول على تلك الديون، وكان الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي محدداً في الدستور المصري بنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، فلن يعني ضبط المالية العامة في البلاد إلا تقليص الدعم، وتخفيض المبالغ المخصصة للمبادرات الاجتماعية، وفي بعض الأحيان تخفيض أجور العاملين في الدولة، من صغار الموظفين بكل تأكيد.
نصيحة للحكومة؛ أخبرونا بالحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، حتى لا تنفجر الألغام المخفية في وجوهنا جميعاً
وإذا قال صندوق النقد إن سياسة سعر الصرف المرن ستكون أفضل لمصر في الوقت الحالي، فلن يعني ذلك إلا المزيد من التخفيض لسعر الجنيه مقابل الدولار، رغم أن الصندوق لم يصرح بذلك، وهو ما يعني المزيد من التضخم، أي تراجع القوى الشرائية للمواطنين، كما ضياع نسب متزايدة من ثرواتهم، بالإضافة إلى تخفيض قيمة الأصول المصرية، وتسهيل استحواذ "الخواجات" عليها.
يلوم وزير المالية المصريين للتحدث بما لا يعلمون، وذكر أرقام مما يتوقعون، دون أن يكونوا حاضرين، ناسياً، أو متناسياً، أنه هو وزملاؤه من منعوا عنا المعلومات، فبحثنا عنها في المصادر الدولية، التي عرفنا منها ما أخفوه عنا، سواء فيما يخص حجم الدين الخارجي الحقيقي، الذي أبلغنا به البنك الدولي قبل البنك المركزي، أو ما يخص مفاوضات الصندوق الحالية.
نصيحة للحكومة؛ أخبرونا بالحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، حتى لا تنفجر الألغام المخفية في وجوهنا جميعاً، كما حدث في موقعة "خروج الأموال الساخنة" في مارس / آذار 2022.