تسرع الحكومة المصرية الخطى لإنهاء نقل الأصول العامة إلى شركة العاصمة الإدارية الجديدة، خلال يناير/ كانون الثاني الجاري، لإعادة هيكلة الأصول المملوكة بنسبة 51% للجيش و49% لوزارة الإسكان، تمهيداً لطرح 10% من الشركة أمام المستثمرين والأفراد في بورصة الأوراق المالية.
تأمل الدولة بإخراج مشروع العاصمة الإدارية من نفق مظلم، بعد مرورها بضائقة مالية حادة، دفعتها إلى اتخاذ إجراءات تقشفية، أجلت افتتاح العاصمة لعدة مرات، وحولتها إلى مدينة أشباح. وتسعى السلطات إلى جمع 150 مليار جنيه (4.85 مليارات دولار)، خلال العام الحالي من عمليات الطرح، لاستكمال المشروعات التي استدانت من أجلها نحو 58 مليار دولار وفقا لتقديرات الخبراء، و45 مليار دولار كما تشير الأرقام الرسمية.
تتوقع الحكومة أن يصل رأسمال العاصمة الجديدة إلى تريليون جنيه، وتحويلها إلى منطقة ذاتية الحكم إدارياً، بعيداً عن سلطات كافة الأجهزة الرسمية بالدولة، فيما تواجه السلطات عجزاً في قدرتها على بناء المنطقة السكنية المخصصة للعاملين بالعاصمة الجديدة، حيث توقفت الإنشاءات في العام الماضي، عند تجهيز 3 آلاف وحدة سكنية لكبار الموظفين الحكوميين، بينما توقفت عند بناء 15 ألف وحدة لباقي الموظفين بمدينة بدر الواقعة على طريق السويس والحدود الشمالية للمدينة (شرق القاهرة)، من بين 30 ألف وحدة سكنية وعدت الحكومة ببنائها مع بداية تشييد العاصمة عام 2017.
لم تتمكن الحكومة من الوفاء بما تعهدت به خلال العامين الماضيين بنقل 50 ألف موظف للسكن الدائم في المنطقة السكنية القريبة من الحي الحكومي، الذي يضم مباني الوزارات والبرج الأيقوني الذي أقامته شركة مقاولات صينية، بكلفة تقدر بنحو 3.7 مليارات دولار.
في تصريحات أمام جمعية رجال الأعمال المصريين أخيراً، اعترف خالد عباس، رئيس شركة العاصمة الإدارية، بأن الحي الحكومي يعمل فيه 48 ألفاً و320 موظفاً، يتبعون للوزارات المعنية و60 جهة عامة وحكومية.
ورغم تأكيده جاهزية المدينة للحياة، بعد توافر وسائل الاتصال والنقل الداخلي ومركز تجاري وخدمات البريد والنظافة، يقر عباس بأن عدد الأسر المستقرة داخل العاصمة حالياً في حدود 1000 أسرة، بينما ينتقل إلى العمل فيها ما بين 15 ألفاً و18 ألف شخص بالقطار الكهربائي الرابط بين العاصمة الجديدة وخط مترو الأنفاق الثالث بمدينة العبور، شرق القاهرة، فيما تتولى الوزرات نقل باقي الموظفين في رحلتي الذهاب والعودة بسيارات وحافلات خاصة، تهدر ملايين الجنيهات يومياً.
تستغرق رحلة الموظفين بين ساعتين و3 ساعات يومياً، تقتطع جهداً ومبالغ كبيرة تزيد عن المخصصات التي حددتها الحكومة للانتقال بقيمة ما بين 500 و2000 جنيه للموظف. وتزيد الكلفة على عمال القطاع الخاص الذين يأتون يومياً للعمل داخل المدينة ويخرجون منها عبر قوافل طويلة، عبر مسارات ووسائل نقل متعددة تربط بين العاصمة الجديدة وباقي أحياء القاهرة والمدن القريبة، وهو ما يزيد عزلة المدينة ويرفع كلفة العمل فيها.
مع غياب موعد رسمي لافتتاح العاصمة الجديدة حتى الآن، تظل الحياة داخل المدينة قاصرة على العمال والموظفين العموميين وقليل من الزائرين مع ندرة المستثمرين الذين يقبلون عليها.
يؤكد مطورون عقاريون أن النشأة الفارهة للعاصمة وتخطيط الحكومة على أن تكون ذات مبان فاخرة ومستويات اجتماعية عالية، جعلا أغلبية المواطنين والشركات المتوسطة والصغيرة تحجم عن الاستثمار فيها، مشيرين إلى وجود مغالاة شديدة في أسعار الأراضي والمباني، بينما تتدني القوة الشرائية للكثير من المصريين مع تراجع قيمة الجنيه وارتفاع معدلات التضخم لمستويات قياسية يتوقع استمرارها طوال العام الجاري.
ترتفع أسعار الأراضي في المناطق السكنية بين 25 ألفاً و30 ألف جنيه، تصل إلى 60 ألف جنيه للمتر السكني العادي، فيما تقفز إلى 250 ألف جنيه في أبراج حي المال والأعمال، و90 ألف جنيه للمتر التجاري في باقي الأحياء.
يصيب الغلاء مخاوف كبار رجال الأعمال، الذين يعقدون المقارنات بين مستوى الخدمات والتسهيلات والأسعار بين المدن المنافسة للعاصمة في المنطقة، وعلى رأسها مدينتا الرياض السعودية ودبي الإماراتية، بينما تصر الحكومة على جذب كبار رجال الأعمال وذوي الدخل المرتفع للعمل والإقامة في مدينة يروج لها على أنها ستكون أول مدينة ذكية فاخرة في البلاد.
في زيارة للعاصمة الإدارية، التي تبعد نحو 55 كيلومتراً عن قلب القاهرة، ترصد "العربي الجديد" حالة هدوء مخيف يحط على كافة الأحياء بمجرد انتهاء فترة دوام الموظفين والعمال ما بين الثانية والرابعة مساءً.
تتحول العاصمة الإدارية إلى منطقة أشباح يصعب التنقل بين طرقها، في ظل تقطع شبكات الإنترنت، ووجود تحويلات مفاجئة في مسارات الطرق، تربك سائقي السيارات، فلا ينقذهم من التيه إلا سائقو عربات النقل الثقيلة (الشاحنات).
دفعت الحكومة مسؤولي الوزارات والمؤسسات العامة والجامعات إلى تنظيم احتفالاتها السنوية داخل فنادق ومنشآت العاصمة، مع جذب الأحداث الكروية والفنية الدولية إلى المدينة لإنعاش أحوالها، مع ذلك تقف عدة عوائق، منها بعد المسافات والكلفة وتراجع قيمة دخل المصريين، حائلاً دون تنشيط الحراك البشري، خاصة التابعة للقطاع الخاص.
تختفي المدارس العامة ويتضاءل عدد المدارس الخاصة باهظة الرسوم، كما توجد 3 جامعات خاصة باهظة الكلفة، بينما تحرم العائلات الراغبة في الإقامة بها من حقها في فرص التعليم.
تعول الحكومة على جذب استثمارات للمدينة من عوائد بيع بواقي أراضي المرحلة الأولى التي تبلغ مساحتها 40 ألف فدان، وبيع نحو 2000 فدان لإقامة مصانع جديدة، ورفع رأس المال لشركة العاصمة من 55 مليار جنيه (1.77 مليار دولار)، إلى ما بين 250 و300 مليار جنيه خلال 3 أشهر، مع تحقيق أرباح في حدود 25 مليار جنيه خلال العام الجاري.
تستهدف الإجراءات جذب المشترين لأسهم الشركة التي ستطرح في البورصة قبل نهاية 2024، مع بيع جزء من الأسهم للمستثمرين الأجانب والعاملين في الخارج بالعملة الصعبة.
وتستهدف الإجراءات تمكين الشركة من القدرة على جمع عملة صعبة تساعد في سداد مستحقات الديون التي تراكمت على مشروعات العاصمة والتي تشمل قيمة القروض الصينية الموجهة لبناء البرج الأيقوني ومجمع الوزارات والبنك المركزي، بالإضافة إلى سداد مشتريات العاصمة لبناء الفنادق والملاهي والبرلمان والقرية الأولمبية، والمنشآت الخدمية المرتبطة بها، منها محطتا توليد الكهرباء والتبريد وشبكات النقل والاتصالات التي جعلت منها مدينة إدارية خاصة، خارج الموازنة العامة للدولة.
تعهد مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، بأن تستقبل المدينة نحو 1.7 مليون فرصة عمل دائمة مع افتتاحها، وأن تتجاوز المشروعات مشكلة التمويل بمجرد بدء انتقال الأسر إلى العاصمة وانتعاش مبيعات العقار. تأتي تصريحات مدبولي وسط رياح معاكسة دولياً في سوق العقار الفاخر، وارتفاع هائل في مستويات الأسعار والتضخم في بيئة تحاصرها الديون واضطراب جيوسياسي في المنطقة لا يعلم أحد مداه.
ولا تقتصر حالة التعثر على الخطوات الحكومية في العاصمة الإدارية وإنما تشمل أيضا الكثير من مشروعات القطاع الخاص الذي يبني عشرات آلاف الوحدات السكنية في مجمعات مترامية الأطراف.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قال رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية في تصريحات إعلامية، إن الشركة قامت بجدولة أقساط أراض بقيمة 10 مليارات جنيه في 150 مشروعاً في العاصمة الإدارية تيسيراً على المطورين.
وأضاف أن العاصمة الإدارية تتضمن 500 مشروع يجري تنفيذها، وتقدمت الشركات المطورة لنحو 350 مشروعاً لإعادة جدولة وتم تأجيل أقساط الأراضي، وتم قبول طلبات 150 مشروعاً هي التي استوفت الأوراق واستكملت الإجراءات.
وقال مسؤول في إحدى شركات التطوير العقاري طلب عدم ذكر اسمه، إن عدد الشركات التي طلبت جدولة أقساط الأراضي ضخم، فهو يمثل 70% من إجمالي المشروعات في العاصمة ويعبر عن حجم التعثر الذي تواجهه هذه الشركات.
وأضاف أن هذه المشروعات هي التي تعطي صورة حقيقية عن إعمار العاصمة، لأنها سكنية وبالتالي توقف الأعمال فيها أو تباطؤها يزيد احتمال تحقق سيناريو تحول العاصمة إلى مدينة أشباح حقيقية.