على الرغم من إبداء الاقتصاد الروسي صموداً غير متوقع في وجه العقوبات الغربية واستقرار العملة الروسية عند أعلى مستوياتها منذ أكثر من أربع سنوات، فإن خبراء اقتصاديين يحذرون من التداعيات طويلة الأجل للعقوبات، والتي قد تتمثل في إطالة أمد التضخم، وانكماش الاقتصاد، والتأخر التكنولوجي.
وفي الوقت الذي تشير فيه تقديرات السلطات الروسية إلى أن الاقتصاد الروسي قد يتراجع بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المائة فقط هذا العام، ثمة مخاوف على أداء الاقتصاد الروسي في السنوات المقبلة، لا سيما بعد دخول الحظر الأوروبي على 90 في المائة من النفط الروسي حيز التنفيذ وحرمان روسيا من التكنولوجيا المتقدمة الغربية.
ويرجع كبير المحللين في مجموعة "تيلي تريد" للتداول، مارك غويخمان، تحسن أداء الاقتصاد الروسي في الأشهر الأخيرة إلى ارتفاع أسعار موارد الطاقة بالسوق العالمية والسياسات الاحترافية للسلطات المالية الروسية، محذراً في الوقت نفسه من مفعول سلبي طويل الأجل للوضع الجيوسياسي الراهن والحظر النفطي الأوروبي المرتقب على اقتصاد البلاد.
ويقول غويخمان في حديث لـ"العربي الجديد": "سجل الاقتصاد الروسي في الأشهر الأخيرة أداء أفضل من التوقعات تحت تأثير عاملين رئيسيين، أولهما الزيادة المهمة في الأسعار العالمية لموارد الطاقة وغيرها من السلع التصديرية، وثانيهما الأداء الاحترافي والسريع للسلطات المالية التي حالت دون وقوع فوضى مالية وتضخم متسارع وانهيار العملة الوطنية وأزمة مصرفية".
وكان البنك المركزي الروسي قد اتخذ خلال الأيام الأولى من الحرب في أوكرانيا، مجموعة من الإجراءات غير المسبوقة مثل رفع سعر الفائدة الأساسية من 9.5 إلى 20 في المائة دفعة واحدة، وفرض قيود على سحب العملة الأجنبية وتحويلها إلى خارج البلاد، مما ساهم في الحفاظ على استقرار المنظومة المالية الروسية، وأتاح تخفيف الإجراءات المتخذة على نحو تدريجي في وقت لاحق، لتبلغ الفائدة الأساسية حالياً 8 في المائة فقط.
وحول رؤيته للمخاطر طويلة الأجل للاقتصاد الروسي، يضيف غويخمان: "أحداث العام الجاري لها مفعول سلبي متراكم طويل الأجل على الناتج المحلي الإجمالي، ومنها العقوبات القاضية بمنع توريد التكنولوجيا والمعدات، وانسحاب كبرى الشركات العالمية من السوق الروسية وقطاعيها الصناعي والخدمي، وتراجع مداخيل السكان والشركات، وانكماش الطلب الداخلي، وهجرة الخبراء من البلاد".
وفي السياق ذاته، يتابع: "قد يشكل الحظر على 90 في المائة من إمدادات النفط الروسي إلى الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية العام الحالي أو بداية العام المقبل في إطار الحظر الجزئي المفروض، ضربة كبيرة للاقتصاد الروسي. أضف إلى ذلك التراجع الحاد لصادرات الغاز إلى أوروبا، شأنها في ذلك شأن صادرات المعادن ومنتجات صناعة الكيماويات، وتحويل الصادرات إلى وجهات بديلة مثل آسيا وأميركا الجنوبية لن يعوض الخسائر الناجمة عن توقّف الإمدادات إلى الاتحاد الأوروبي سوى بشكل جزئي".
في سياق آخر، حذّر مركز التحليل الاقتصادي الكلي والتوقعات قصيرة الأجل (منظمة غير ربحية معنية بتحليل عمليات الاقتصاد الكلي الروسي) من أن معدل التضخم في روسيا قد يبلغ ما بين 11 و14 في المائة هذا العام، وبين 6 و7 في المائة في عام 2023، مع الانخفاض إلى ما بين 4.5 و5 في المائة في عامي 2024 و2025.
وفي مذكرة تحليلية جديدة، وصف مسؤول التحليل الاقتصادي الكلي والتوقعات بالمركز، دميتري بيلؤوسوف، هذه المعدلات للتضخم بأنها "ممتدة"، لافتاً إلى أن العوامل غير النقدية (أي تلك التي لا علاقة مباشرة لها بالسياسات النقدية - الائتمانية للمصرف المركزي) لعبت دوراً كبيراً في التضخم الروسي، ومنها على سبيل المثال، خصائص سلوك المستهلكين (بما فيها الطلب المرتفع رداً على الصدمات الاقتصادية الخارجية مثل جائحة كورونا والعقوبات الغربية)، وكذلك تكلفة السلع المستوردة المعتمدة على سعر الصرف والقيود اللوجستية.
وتزيد المكونات غير النقدية في ارتفاع الأسعار من صعوبة مواجهتها بواسطة الآليات الكلاسيكية للسياسات النقدية للمصرف المركزي، وفق كاتب المذكرة.
وأظهرت حسابات المركز أن حصة عامل الاستيراد في الـ15.9 في المائة كمعدل التضخم بحلول نهاية الربع الثاني من العام، بلغت 1.8 في المائة، والتصدير 1 في المائة، والمنتجات الزراعية 0.5 في المائة، والتعريفات المحكمة 0.6 في المائة. أما الـ12 في المائة المتبقية، فتم نسبها إلى العوامل "الأخرى"، بما فيها ارتفاع الطلب في الربيع الماضي.
وبعد قفزة كبيرة في الأسعار، خلال الفترة من نهاية فبراير/ شباط إلى بداية إبريل/ نيسان من العام الجاري، بسبب صدمة تراجع الروبل والذعر الاستهلاكي، أصبح معدل التضخم في تراجع مستمر. وإذا كانت وتيرة ارتفاع الأسعار خلال الفترة من 26 فبراير/ شباط إلى 8 إبريل/ نيسان، بلغت 9.4 في المائة، فإن الأسعار سجّلت خلال الفترة من 14 مايو/ أيار إلى 29 أغسطس/ آب تراجعاً بنسبة 1 في المائة.