الحروب تدفع الذهب للارتفاع وتخطف المستثمرين من أسواق المال

26 مايو 2023
البنك المركزي الروسي يواصل زيادة مشتريات الذهب (Getty)
+ الخط -

عادت الجاذبية إلى الذهب على خلفية زيادة المخاطر الجيوسياسية حول العالم، ومواصلة مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي سياسة التشدد النقدي ورفع سعر الفائدة.

صاحب ذلك صدور تقارير عن مؤسسات مالية كبرى تنصح المستثمرين بالاحتماء بالمعدن النفيس وحيازته والتخلص من الأوراق المالية من أسهم وسندات.

ومنتصف هذا الأسبوع، أوصى "جيه بي مورغان" الاستثماري الأميركي المستثمرين بالتخارج من الأسهم والاحتفاظ بالذهب والسيولة النقدية، مع مخاوف الركود واستمرار تشديد السياسة النقدية الأميركية والقلق حيال سقف الدين. وفي محفظة السلع الأساسية، انتقل "جيه بي مورغان" من الطاقة إلى الذهب، في إطار التحوط ضد تداعيات أزمة سقف الدين.

وقال فريق من الخبراء في البنك الاستثماري بقيادة ماركو كولانوفيتش إنه قام بخفض مخصصاته للأسهم وسندات الشركات، مع تعزيز حيازته من النقد بنسبة 2%.

وعلى الرغم من تراجع أسعار الذهب أمس الخميس بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار إلى أعلى مستوى في شهرين، وزيادة العائد على سندات الخزينة الأميركية أجل عشر سنوات التي تعد من أكبر المنافسين للمعدن الثمين، تشير الأرقام الى ارتفاع ملحوظ في سعر الذهب خلال الأشهر الماضية وزيادة جاذبيته للمستثمرين.

وحدث الارتفاع في سعر المعدن الثمين رغم الغموض الذي يحيط بمستقبل المفاوضات الجارية بشأن سقف الدين الحكومي الأميركي. لكن يبدو أن المستثمرين في المعدن الأصفر وضعوا في حساباتهم أن الكونغرس لن يغامر بترك الولايات تتخلف عن سداد ديونها، الأمر الذي يعني تلقائياً تسديد ضربة قاضية للدولار والنظام المالي العالمي.

وبحسب محللين، فإن تعثر الولايات المتحدة عن سداد ديونها قد يدفع أسعار الذهب إلى مستوى قياسي مع اتجاه المستثمرين نحو الملاذات الآمنة.

وقال إدوارد مويا، كبير محللي السوق بمؤسسة "أواندا"، لموقع "إنسايدر": لن أُفاجأ إذا شهدنا تحركًا للأعلى بقيمة 100 دولار في أسعار الذهب، وهو ما يعني ارتفاع الأسعار أعلى من مستواها القياسي. وأضاف أنه من الصعب للغاية التكهن، لكن من الواضح أن هذه لحظة تاريخية من شأنها تفكيك أجزاء كبيرة من وول ستريت.

ويوم الجمعة الماضي، قالت "آر بي سي كابيتال ماركتس" في مذكرة إن الافتقار المستمر إلى اتخاذ قرار بشأن سقف الدين قد يؤدي إلى ارتفاع الذهب في المدى القريب.

وتوقع كبير الاستراتيجيين العالميين لدى مؤسسة "إل بي إل فاينانشال" كوينسي كروسب ارتفاع الذهب في حالة تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، مع ضعف الدولار. وأضاف كروسبي قائلاً: لن يكون الأمر مفاجئًا إذا رأينا أن الذهب أصبح ملاذاً آمناً لمن يشعرون بالقلق من أن التخلف عن السداد قد يحدث في الواقع.

ومعروف أن أسعار الذهب تتحرك في اتجاه عكسي لحركة الدولار، حيث إنه من السلع التي يجرى تسعير معظم مبيعاتها ومشترياتها بالدولار، وبغض النظر عن التذبذبات الحالية في سعر الذهب، ماذا عن مستقبل أسعار الذهب وتأثير الاضطرابات الجيوسياسية التي يعيشها العالم عليه؟

وفق خبراء بوكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيف الائتماني، فإن الاضطراب الذي يعيشه العالم في العديد من البؤر الساخنة يرفع من حدة قلق المستثمرين في أسواق المال والأدوات الثابتة مثل السندات الحكومية، وخاصة السندات الأميركية، ويدعم ذلك مستقبل أسعار الذهب، إذ إن الذهب من المعادن شديدة الحساسية بالتوترات الجيوسياسية، خاصة تلك المتعلقة بالقوى العظمى، مثل التوترات الحالية المتعلقة بالحرب الأوكرانية، والتوتر الجاري بين واشنطن وبكين حول تايوان، كما تخطط الصين لقيادة مجموعة "بريكس" التي تضم اقتصادات كبرى مثل الهند والبرازيل وروسيا لإنشاء عملة عالمية منافسة للدولار. كما أن الأسعار تتأثر كذلك بسياسات الحظر الأميركية والعقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة ومجلس الأمن على الدول.

ويُعَد استمرار ارتفاع طلب البنوك المركزية وضعف الدولار من العوامل التي تدفع بنك بحجم "يو بي إس" السويسري لتوقع ارتفاع أسعار الذهب إلى 2100 دولار للأوقية بحلول نهاية العام الجاري، و2200 دولار بنهاية مارس 2024. وكان المصرف السويسري قد توقع قبل أيام استمرار قوة طلب البنوك المركزية على الذهب خلال 2023، حتى بعد مشترياتها القياسية المسجلة في العام الماضي.

وذكر محللو البنك في مذكرة أن البنوك المركزية اشترت 1078 طنًا من المعدن النفيس في 2022، وهو المستوى الأعلى على الإطلاق، ويزيد بأكثر من الضعف عن 450 طنًا التي تم شراؤها في 2021.

وحسب تقديرات البنك السويسري التي تعتمد على بيانات الربع الأول، فإن البنوك المركزية قد تشتري 700 طن متري هذا العام، وعلى الرغم من أن ذلك المستوى أقل من المسجل في 2022، إلا أنه لا يزال أعلى من المتوسط البالغ 500 طن متري منذ عام 2010.

وقال خبراء استراتيجيون في البنك: "نعتقد أن هذا الاتجاه نحو شراء البنوك المركزية المعدن الأصفر قد يستمر وسط تصاعد المخاطر الجيوسياسية والتضخم المرتفع، وأن قرار الولايات المتحدة تجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسي في أعقاب حرب أوكرانيا له تأثير طويل المدى على سلوك البنوك المركزية.

لهذه الأسباب الاقتصادية والسياسية وغيرها، يلاحظ أن معنويات المستثمرين في الذهب ارتفعت خلال الشهرين الماضيين إلى أعلى مستوى في 19 شهراً عند حوالي 2039 دولاراً للأوقية في أوائل مارس/آذار الماضي، واستقر منذ ذلك الحين عند حوالي 1900 دولار للأونصة.

وقد يكون أفضل مثال على تأثير الاضطرابات السياسية على أسعار الذهب ما حدث للمعدن الثمين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، حيث ارتفعت أسعار الذهب في سوق لندن من 271.50 دولارًا للأوقية إلى 287 دولارًا (أو ما يقرب من 6%) في يوم واحد.

وفي أوقات الاضطرابات السياسية، عادة ما يهرب المستثمرون إلى الذهب لحماية أموالهم من مخاطر الدولار والعملات الرئيسية في سوق الصرف، لأن المعدن الأصفر لا ينطوي على مخاطر تذكر، كما أنه سهل التسييل ووسيلة مضمونة للدفع في التسويات التجارية.
لكن رغم ذلك، يرى خبراء أن الذهب لا يكسب دائمًا بسبب الأزمات الجيوسياسية، حيث إن الهجمات الإرهابية التي حدثت في باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني العام 2015، وفي بروكسل في مارس/آذار 2016، كان تأثيرها على أسعار الذهب مؤقتًا وسرعان ما تلاشت.

كما أدت العقوبات الغربية على روسيا وعدة دول، وحرمانها من استخدام وسيلة الدفع الغربية بين المصارف "سويفت"، إلى هروب الدول من العقوبات الغربية عبر زيادة احتياطياتها من الذهب وتفادي التعامل في أدوات المال الغربية أو دخول الأسواق خوفا من تعرضها للعقوبات. كما أن الدول التي لديها علاقات تجارية ضعيفة مع أميركا لجأت إلى زيادة مشترياتها من الذهب.

ويتوقع خبراء أن تتواصل زيادة المشتريات من الذهب خلال السنوات المقبلة بسبب تزايد عدم الثقة في النظام النقدي والمالي العالمي المبني على الدولار.

وتعد الاضطرابات الجيوسياسية والنزاعات العسكرية والحروب الأهلية والهجمات الإرهابية وأعمال الشغب والحواجز الجمركية والعقوبات التجارية والمالية والاقتصادية من العوامل الداعمة لسعر الذهب في الأسواق العالمية. كما يضيف بعض المحللين الأوبئة مثل "جائحة كورونا" إلى التهديدات الجيوسياسية.

وفي الآونة الأخيرة، كان لانتشار فيروس كورونا تداعيات كبرى على السياسة النقدية العالمية التي وسعت الكتلة النقدية في الاقتصادات الكبرى، خاصة "الكتلة الدولارية"، وكانت من نتائجها ارتفاع معدل التضخم الجاري. كما أنها جاءت مصاحبة بارتفاع في سعر صرف الدولار.

ولكن يلاحظ أنه رغم ذلك لم يرتفع سعر الذهب إلى المستويات التي توقعها محللون بسبب أزمة شح السيولة الدولارية التي ضربت أسواق العالم.

وأدت مشتريات الذهب المتزايدة في البلدان النامية والأسواق الناشئة إلى زيادة احتياطيات الذهب التي كانت بحاجة للتخلص من الدولار المرتفع في المدفوعات الخارجية.

وجعل الدولار المرتفع، الذي أدى إلى إفلاس دول، من اكتناز الذهب لدى البنوك المركزية في الدول الناشئة أمراً ضروريا لزيادة رأس المال بسرعة والتدخل في سوق الصرف في حال تعرض عملاتها لهجمات المضاربة الشرسة أو شارفت على الانهيار، وبالتالي لجات لزيادة مشترياتها من  الذهب الذي يسهل تسييله وبالتالي يمكنها من التدخل السريع في سوق الصرف.

ويرى تحليل في معهد "أتلانتك كاونسل" أن الأزمة المالية العالمية أدت إلى إضعاف ثقة البنوك المركزية في استقرار النظام المالي العالمي الذي يعتمد على الدولار، ما رفع من مشتريات الذهب.

وفي عام 2009، على سبيل المثال، أعلن البنك المركزي الصيني عن زيادة مخزوناته من الذهب أكثر من 70%. ولدى الصين طموحات في تحويل عملتها، اليوان، إلى عملة عالمية منافسة للدولار تعكس حجمها التجاري. كما تنوي بناء احتياطيات ضخمة من الذهب تسمح لها بالتجارة في السلع الحيوية، مثل النفط واليورانيوم، بـ"اليوان المدعوم بالذهب".

على صعيد الدول الفقيرة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن نائب الرئيس الغاني محمدو باوميا أن بلاده ستسعى لشراء النفط بالذهب بدلاً من الدولار. ودعماً لهذه السياسة، وسع البنك المركزي الغاني من احتياطياته من الذهب لأول مرة منذ عام 1961.

وتخطط الحكومة الغانية لزيادة الاحتياطيات من خلال مطالبة شركات التعدين ببيع 20% من مخزونها من الذهب المكرر إلى البنك هذا العام. كما أن الحروب الجارية في أفريقيا حالياً، خاصة السودان، من المتوقع أن تخفض إنتاج الذهب الذي كان يسرق بواسطة "مليشيا حميدتي" ويتدفق على أسواق الإمارات خلال العام الجاري.

والسودان ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا. كما أن "ميليشيا حميدتي" تدير مجموعة من المناجم في دول أفريقية أخرى بالتحالف مع مجموعة فاغنر الروسية. ومن المتوقع أن يتأثر إنتاج الذهب الأفريقي هذا العام، وربما يؤثر تلقائياً على حجم المعروض العالمي من الذهب.

من جانبه، يرى مجلس الذهب العالمي أن الاقتصاد العالمي يقف عند منعطف خطر قد ينتهي به إلى الركود الاقتصادي، على الرغم من التراجع الطفيف الذي شهده التضخم خلال العام الجاري بعد الصدمات القاسية خلال العام الماضي.

وتدفع مخاوف الركود الاقتصادي المستثمرين لبيع الأسهم والهروب من أسواق المال إلى ملاجئ آمنة وعلى رأسها الذهب. ومن بين العوامل، المتوقع أن تدعم الذهب، الأرباح الضعيفة للشركات في أسواق المال العالمية وتحسن النمو الاقتصادي في الصين، حيث إن الصين من الدول الكبرى المستهلكة للذهب، إلى جانب الهند.

وما يزيد من جاذبية الذهب لدى المستثمرين تراجع العوائد على السندات الحكومية في الاقتصادات الكبرى، خاصة إذا تواصلت الحرب الروسية وأثرت على أسعار الحبوب والسلع الغذائية مثل الزيوت والقمح ، فإن ذلك سيعني تلقائياً أن معدلات التضخم ستظل مرتفعة في أوروبا وربما يتبخر التحسن الذي حققه المركزي الأميركي في خفض معدل التضخم خلال العام الجاري.

المساهمون