الحرب على أوكرانيا تضرب اليورو والبقية تأتي

14 سبتمبر 2022
تداعيات حرب أوكرانيا تفرض ضغوطاً هائلاً على اقتصادات أوروبا وعملتها الموحدة (فرانس برس)
+ الخط -

تعيش أوروبا أزمة اقتصادية غير مسبوقة، يعود القسم الظاهر منها حتى الآن إلى تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، مع أن القارة التي تمثل على المستوى الاقتصادي القوة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة، ليست من يدفع القسط الأساسي من فاتورة السلاح الذي تواجه به أوكرانيا الحرب الروسية منذ 24 فبراير/شباط الماضي، كما أنها لا تتحمل وحدها أعباء اللاجئين الأوكرانيين، الذين تجاوز عددهم ثمانية ملايين في الداخل وسبعة في الخارج، تشكل النساء والأطفال وكبار السن الأغلبية العظمى منهم، والتي تتوزع في صورة أساسية في بولونيا، رومانيا، المجر، سلوفاكيا، مولدوفا، وتستقبل ألمانيا النسبة الأكبر من بين دول أوروبا الغربية التي فتحت أبوابها للعائلات الأوكرانية الهاربة من نار الحرب. وهذه الفئة تعمل على الاستقرار في البلدان التي قصدتها، ما يعني أنها تكلف الدول المضيفة على صعيد السكن والمدارس والطبابة وتوفير العمل.

تتسبب الحرب على أوكرانيا في ما يُعرف باسم "التضخم المصحوب بالركود" العالمي، والذي يرافقه ارتفاع سريع في أسعار المواد الغذائية والطاقة والمواد الخام الرئيسية، وهو وضع لم تشهده أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي، ويتجلى الوجه البارز من الأزمة في التدهور الذي تشهده قيمة العملة الأوروبية، والتي عرفت للمرة الثالثة خلال الشهرين الفائتين انخفاضا إلى ما دون تكافؤ اليورو مع الدولار، وعلى مدار عام واحد، سجلت انخفاضًا بنسبة 16.4 بالمائة مقابل الدولار، وبلغت بذلك أدنى مستوى لها منذ دخولها حيز التداول عام 2002.

مثل هذا الحدث غير مسبوق في تاريخ العملة الأوروبية، وكانت النتيجة زيادة ميكانيكية في أسعار الوقود والغاز والكهرباء والمواد الغذائية، لأن الأسعار الدولية للوقود الأحفوري مقومة بالعملة الأميركية، وحتى لو أخذنا في الاعتبار بعض الشيء أن اليورو قد تم تداوله بأقل من الدولار ببضعة سنتات بعد دخوله رسميًا حيز التداول، فإن استحضار تلك الفترة لا يخلو من دلالة، لأنه يسمح لنا بالتوازي مع ما يشهده حاليًا، في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، برؤية حدث تآكل اليورو مقابل الدولار في سياق ركود كبير. ومن دون شك يحيل جيدًا إلى انفجار فقاعة التكنولوجيا الجديدة التي شكلت ذروة هذه الفترة المعقدة اقتصاديًا في بداية الألفية.

اليوم، يهدد الركود الاقتصاد الأوروبي مرة أخرى، ومع أن السلطات السياسية تحاول تهدئة القلق العام من خلال الإشادة بقوة الأسواق المالية، فليس من قبيل المصادفة أن الانهيار التاريخي الذي يشهده اليورو حاليًا مقابل الدولار يتزامن تمامًا مع أزمة سياسية كبرى، هي الحرب الروسية على أوكرانيا، وهي تاريخية في كافة المقاييس. والأكبر من حيث النتائج الراهنة والبعيدة، التي تعرفها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

وكما هو شأن السياسيين، هناك من بين الخبراء الأوروبيين من يحاول أن يقلل من وقع الحدث، ويضع التراجع الذي يشهده اليورو بأنه خارج عن نطاق مواصفات العملة الأوروبية، وما تواجهه الكتلة الأوروبية واقتصاداتها تحديات كبيرة، ويرجع أصحاب هذا الموقف الأمر بشكل أساسي إلى قوة الدولار، الذي يستفيد من اقتصاد أميركي يتفوق على نظيره الأوروبي بخصائص كبيرة، ومنها القابلية على امتصاص الصدمة المرتبطة بالحرب على أوكرانيا.

تتسبب الحرب على أوكرانيا في ما يُعرف باسم "التضخم المصحوب بالركود" العالمي والذي يرافقه ارتفاع سريع في أسعار المواد الغذائية والطاقة والمواد الخام الرئيسية

ويعود ذلك على المستوى التقني، على وجه الخصوص، إلى سياسات الميزانية الأميركية، التي أدت حزم التحفيز الضخمة التي قدمتها إلى ارتفاع الأسعار بشكل أكثر حدة، فضلاً عن زيادة الأجور. ولذا، كان على الاحتياطي الفيدرالي، لتجنب هذا التضخم المتسارع، أن يرفع أسعار الفائدة بسرعة أكبر.

والتضخم المقصود هنا، يأتي معظمه من انفجار أسعار الطاقة في المقام الأول التي ارتفعت على نحو جنوني، وتجاوزت في بعض الدول 100 بالمائة، ومن نقص المواد الخام الناتج عن موجات كوفيد 19 المختلفة التي شلت النشاط الاقتصادي في كل مكان تقريبًا في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الصين. 

ومن البديهي هنا أن دفع المزيد مقابل سلعة ما، هو في الواقع بمثابة تخفيض قيمة العملة في ما يتعلق بهذه السلعة. ولن يقف ارتفاع الأسعار عند هذا الحد، بل هو مرشح لأن يتجاوز 200 بالمائة مع فصل الشتاء، حينما يزداد استهلاك الغاز في التدفئة.

وأحد الأسباب هو أن الحرب في أوكرانيا رفعت من درجة انعدام الأمن للأسواق المالية، ما أدى لانسحاب العديد من المستثمرين من مواقعهم الأوروبية، بسبب القرب الجغرافي وأحيانًا السياسي من المتحاربين. وانعكس ذلك على خسارة اليورو بعض قيمته، وأدى الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة الأميركية إلى تعجيل هذه الحركة الهائلة للمستثمرين لصالح الدولار، الذي أصبح مربحًا أكثر فأكثر مقابل عملة أوروبية غير قادرة بشكل واضح على الحفاظ على ما يشبه النمو داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي تواجه انقسامات حادة بينها بسبب الوضع في أوكرانيا بين كتلة تريد المزيد من الانخراط في الحرب (بولونيا، رومانيا)، وأخرى مترددة (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا)، وأخرى تؤيد موسكو (المجر).

وهناك خبراء آخرون يرون أن الوضع الحالي طارئ وسيتعافى اليورو قريبًا، لكن الأمر مرهون برفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة الخاصة به. ولسوء الحظ، هذا سيف ذو حدين، لأن رفع أسعار الفائدة الرئيسية يمكن أن تكون له أيضًا نتيجتان سلبيتان بشكل خاص. الأولى هي تكلفة النقود، وبالتالي انخفاض الطلب على الائتمان.

سيؤدي هذا الانكماش في الائتمان إلى انخفاض في استهلاك السلع ويصبح المقترضون أكثر ندرة، ولكن أيضًا في صعوبة أكبر للشركات لتمويل نشاطها، الذي عانى بالفعل بشكل كبير من الأزمة الصحية لمدة 30 شهرًا حتى الآن. ويدعو هؤلاء الخبراء إلى تعديل السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي، لتكون أكثر انسجاما مع سياسة الاحتياطي الفيدرالي، وستصبح بذلك فعالة، بما يسمح لليورو بالاستقرار والتعافي والارتفاع التدريجي. وهذا من شأنه أن يوفر توازنا أفضل بين الاقتصادين الأميركي والأوروبي.

النتائج المباشرة لتراجع اليورو، تظهر أن الولايات المتحدة أقل تأثراً بنتائج الحرب في أوكرانيا

هذا الحل يستوجب قرارا سياسيا من المجموعة الأوروبية، لأنه يقوم على فلسفة مختلفة عن تلك التي قام عليها اليورو، ويشكل في جوهره ربطا للعملة الأوروبية بالدولار، ما يضرب مسألة الاستقلالية التي تعمل عليها أوروبا منذ وضع العملة الأوروبية حيز التداول. وذلك عدا عن أن هذا الحل سيعزز من وضع الدولار، ويؤثر بصورة مباشرة على القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي.

النتائج المباشرة لتراجع اليورو، تظهر أن الولايات المتحدة أقل تأثراً بنتائج الحرب في أوكرانيا. وعلى العكس من ذلك، تأثرت منطقة اليورو، التي تعتمد على واردات الغاز والنفط. ولأن فاتورة الطاقة الأوروبية ارتفعت بشكل كبير، لذلك نشأ ما يسمى بالتضخم المستورد، كون أسعار المواد الخام التي ارتفعت فواتيرها مسددة بالدولار. ويحدد الخبراء الاقتصاديون أنه كلما انخفضت قيمة العملة، ارتفعت تكاليف الاستيراد. إن فاتورة الطاقة هذه، المقومة بالدولار، هي التي من المرجح أن تثقل كاهل العجز التجاري الأوروبي.

ويجد البنك المركزي الأوروبي نفسه اليوم أمام موقف حرج جدا، فإما أن يترك اليورو يترنح، أو يقوم برفع أسعار الفائدة كي تمتص الصدمة الناجمة عن حرب أوكرانيا ويوقف التدهور، إلا أن رفع أسعار الفائدة سوف يؤثر سلبا على بعض الدول الأوروبية الأكثر هشاشة مثل إيطاليا والبرتغال، مما يفجر أزمة غير مسبوقة في منطقة اليورو قد تؤدي إلى موت العملة الموحدة.

وإذا اختار المركزي الأوروبي عدم القيام بأي شيء من أجل الحفاظ على قدرة إيطاليا على السداد، على سبيل المثال، فسيستمر التضخم في الارتفاع، ولكن قبل كل شيء، يخاطر المستثمرون بالتخلي نهائياً عن اليورو لصالح الدولار، حتى يفقد ربما معظم قيمته.

تخسر الشركات الأموال، والتضخم يرتفع، والبنزين يرتفع في المحطات، والقوة الشرائية للأفراد تتناقص

ولوضع هذه الأزمة في نطاقها الإنساني، فإن الآثار مرشحة لأن تكون كارثية في المدى القريب، ذلك أن معظم المشتريات التي تقوم بها أوروبا، سواء من قبل الدولة أو من قبل الشركات، يتم دفع ثمنها بالدولار. النفط، المواد الخام، الإنتاج الزراعي، المصنوعات الإلكترونية، وكل هذه الموارد ترى أسعارها ترتفع بلا هوادة مع ضعف اليورو مقابل الدولار.

نتيجة لذلك، تخسر الشركات الأموال، والتضخم يرتفع، والبنزين يرتفع في المحطات، والقوة الشرائية للأفراد تتناقص. وسيؤدي ذلك إلى تباطؤ الاستهلاك، أولاً على الترفيه، الملابس، المعدات المنزلية.. إلخ، ثم بشكل متزايد على الضروريات، الوقود، التدفئة، الطعام، الرعاية الصحية.. إلخ، وسيقود ذلك إلى أخطار سلبية؛ إيرادات أقل لشركات الدولة، زيادة في عدد حالات الإفلاس، تسريح العمال، فقدان الثقة، الاضطرابات الاجتماعية.

موقف
التحديثات الحية

وعلى هذا ينتظر الأوروبيون الشتاء المقبل، وهم يتوقعون انهيارات اقتصادية وأزمات سياسية واجتماعية كبيرة، وفي مواجهة الآثار السلبية التي بدأت بالظهور من خلال تراجع القدرة الشرائية، يواجه الاتحاد الأوروبي مسألة زيادة تضامنه الداخلي، وبدأ بعض الخبراء يتحدثون عن ضرورة وضع "خطة مارشال" عالمية، للحد من الآثار الكارثية المحتملة لحرب أوكرانيا في العديد من البلدان والمناطق في العالم. وهناك خشية من أن الثمن الجيوسياسي لتقاعس الأوروبيين سيكون باهظًا، بالنسبة لأوروبا وأفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط.

المساهمون