أعاد العدوان الإسرائيلي على غزة، ورغبة الاحتلال في ترحيل أهل فلسطين إلى سيناء، اهتمام المواطنين بالنظر إلى قدرات البلاد العسكرية.
أحدثت تصريحات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو حول تغيير إسرائيل لخريطة الشرق الأوسط إلى الأبد مخاوف لدى المصريين من توسع نطاق الحرب الدائرة على الحدود. يحظى الجيش بدعم مالي وسياسي واسع، رغم الآثار السلبية التي صاحبت إقحامه بالتدخل في الملفات السياسية والاقتصادية في العشرية الأخيرة.
يقدر موقع ورلد بيبوليشن ريفيو www.worldpupulationreview المختص برصد نفقات الجيوش لعام 2023 ميزانية الجيش المصري بنحو 11.3 مليار دولار محتلا المرتبة الثالث عربيا في الإنفاق العسكري، والمرتبة 12 عالميا في قدراته العسكرية، مشيرا إلى ارتفاع مستوى تسليحه وجهوزيته القتالية، وامتلاكه 1054 طائرة حربية متعددة المهام، من بينها 214 مقاتلة، و88 هجومية و59 للنقل العسكري، بالإضافة إلى طائرات التدريب والمهام الخاصة والمروحيات التي تبلغ 294 مروحية، منها 81 هجومية.
يضع موقع غلوبال فاير باور الأميركي Global Firepower في تقديراته لعام 2023 الجيش المصري بالمرتبة 11 من حيث الإنفاق العسكري، في حين يصنفه بالمرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط من حيث القوة العسكرية بعد تركيا، والمرتبة الـ14 من بين أقوى 138 جيشا حول العالم. وفقا للموقع، تصدر الجيش المصري أقوى جيوش قارة أفريقيا، بتعداد أفراد بلغ 1.2 مليون مقاتل، وامتلاكه 1069 طائرة عسكرية متنوعة و4664 دبابة.
اقتنصت مصر صفقات عسكرية واسعة مع كل من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين، استهدفت الحصول على غواصات لإطلاق صواريخ باليستية وحاملتي طائرات عمودية، وطائرات هجومية ومسيّرة "درون" بلغت تكلفتها نحو 20 مليار دولار، خلال الفترة من 2016 إلى 2019. يشير "غلوبال فاير باور" إلى أن مصر جاءت في مقدمة الدول الأكثر استيرادا للأسلحة الألمانية عام 2019 بقيمة 802 مليون يورو، مبينا أن الجيش حصل على المركز الثاني عالميا في قوة الألغام البحرية، والثالث عالميا في تقييم حاملات الطائرات التابعة له. يعتمد "غلوبال فاير باور" في تقييمه قوة جيوش العالم على نحو60 معيارا، تشمل النواحي العسكرية والاقتصادية والقدرات اللوجيستية والجغرافيا والتسليح وعدد قواته البرية والبحرية والجوية.
يحظى الجيش بدعم سياسي واسع يمكّنه من إدارة موارده بعيدا عن سلطة البرلمان والجهات الرقابية بالدولة. تُعقد جميع المناقشات حول أمور القوات المسلحة في لجان داخل دوائر مغلقة في البرلمان، بغرفتيه النواب والشيوخ، لا يحضرها إلا الخاصة، ولا يدير شؤونها إلا قيادات عسكرية وأمنية وشخصيات وثيقة الصلة بالأجهزة السيادية بالدولة. يحظر وجود الصحافيين ووسائل الإعلام أثناء مناقشة قضايا تمس أمور القوات المسلحة في الصحف والقنوات المحلية من دون العودة إلى وزارة الدفاع.
وقد حصلت القوات المسلحة على حصانة خاصة وفقا للمادة 197 من الدستور، حيث تنص على: "ينشأ مجلس للدفاع الوطني، يتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويضم في عضويته رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي النواب والشيوخ، ووزراء الدفاع والخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات العامة ورئيس أركان القوات المسلحة والقوات البحرية والجوية والدفاع الجوي ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة ومدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع. تختص اللجنة بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها ومناقشة موازنة القوات المسلحة، ويجب أخذ مجلس الدفاع الوطني في مشروعات القوانين المتعلقة بالقوات المسلحة".
في تعديلات دستورية، نقلت موازنة الجيش من الباب الأول في الموازنة العامة للدولة، لتتحول إلى موازنة ذات السطر الواحد، حتى لا تتحول إلى قضية للمناقشة في الجلسات العامة.
ولم تعلن ميزانية الجيش رسميا، إلا عن السنة المالية 2012-2013، تحت ضغوط التغيرات السياسية التي أحدثتها ثورة 25 يناير 2011، حيث قدمت حكومة كمال الجنزوري نحو 5 مليارات دولار لتمويل ميزانية الجيش، بالإضافة إلى احتفاظه بالاستثمارات والمشروعات التي يديرها بعيدا عن موارد الموازنة العامة للدولة. مثلت ميزانية الجيش نحو 4.2% من نفقات عام 2011-2012، بما يزيد عن المعدلات التي يقدرها البنك الدولي بنحو 2.6% من إجمالي الإنفاق العام.
هذا ويتلقى الجيش 1.3 مليار دولار دعما ماليا سنويا من الولايات المتحدة، على شكل مساعدات بمعدات عسكرية، منذ توقيع اتفاقية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979. وقد وضعت الحكومة الأميركية 300 مليون دولار منها تحت قيود واشتراطات تتعلق بالتزام النظام باحترام حقوق الإنسان والإفراج عن المعتقلين السياسيين، الذين تطالب الإدارة الأميركية بالإفراج عنهم.
تشير دراسة حول دور ميزانية الجيش، لمركز كارنيغي للشرق الأوسط، إلى غموض المعلومات المتعلقة بالإيرادات والحسابات في المؤسسة العسكرية، بطريقة تجعل من المستحيل عمليا تقيم فعالية التكلفة الفردية لكل هيئة أو منشأة عسكرية أو تقديم حسابات شاملة للاقتصاد العسكري ككل.
وتؤكد الدراسة التي أشرف عليها يزيد صايغ، مدير المركز، المتخصص في الشأن المصري، أن الغموض المالي يوجِد صعوبة في تقييم الجدوى الاقتصادية، وبما يؤدي إلى استثمارات عكسية للأموال الموجودة في الحوزة العسكرية.
يستند التقرير إلى ما رصده "مشروع العدالة العالمية" التابع للبنك الدولي منذ عام 2014، وما زال مستمرا، ويقول إن "أصحاب النفوذ في مصر نجحوا في بناء شبكات من أصحاب المصالح في القطاع الحكومي والقضاء والجيش وبعض القطاع الخاص الذين استفادوا من العقود العامة ومعارفهم في تأمين مداخيل في غياب المنافسة، في ظل انعدام الوصول إلى المعلومات تماما، وسيادة التقدير الفردي في ما يتعلق بالقرارات البيروقراطية، بما أسهم في وجود اقتصاد عسكري يتشكل إلى حد كبير وفقا للمساومات داخل الهيئات وما بينها وما يحرك شبكات المصالح وبناء التحالفات وتدفقات رأس المال".
وفي السياق، يبين التقرير أن ميزانية الجيش والمؤسسات التابعة له تأتي مواردها من ميزانية الدفاع، والرسوم المكتسبة من الفنادق والمنتجعات والمرافق الاجتماعية والرياضية التي تملكها وزارة الدفاع، ومبيعات السلع الغذائية الأساسية في الأسواق المحلية، وتوفير الخدمات الطبية مدفوعة الرسوم، ورسوم الأشغال العامة بما في ذلك استصلاح الأراضي والمشروعات العامة العملاقة، ومخططات الإسكان والبنية التحتية والأرباح المشمولة في مشاريع متفق عليها مع المقاولين المنفذين، وإيرادات الإيجار وأي رسوم أو تبرعات يجرى تلقيها لمنح تراخيص استخدام الأراضي، وتأجير المرافق كالطرق السريعة والمناجم والمحاجر، وتخليص البضائع في الموانئ، وإيداعات وفوائد الصناديق الخاصة والمشروعات الاستثمارية التجارية للشركات الخاصة المملوكة للجيش.
وتظهر الدراسة إنفاق 60% من ميزانية الدفاع على الرواتب ومعاشات التقاعد، وينفق الرصيد المتبقي على المهام والرعاية الصحية والوقود وتجديد وصيانة المعدات القتالية والذخائر والعقارات والاستثمار في منشآت أو معدات جديدة.
تؤكد الدراسة أن توجه النظام للحصول على دعم سياسي من الجيش أدى إلى توسعه في بيع المواد الغذائية والخدمات للمواطنين بأسعار معقولة لمواجهة التضخم، لافتا إلى استحالة تقدير الدخل الصافي للمؤسسة العسكرية من المشاريع القومية والعملاقة، مع تراجعها في الفترة الأخيرة مع تباطؤ وتيرة تلك المشروعات، ومواجهة الشركات صعوبات في تحقيق قيمة مضافة في معظم المشروعات والقطاعات الصناعية والإنتاجية.
ويشير خبراء إلى أن تخبط الحكومة في إدارة الاقتصاد، واعتماد النظام على الجيش في تنفيذ مشروعات غير ذات جدوى أو ضعيفة العائد، حولا تلك المشروعات إلى عبء على ميزانيته، خاصة في ظل إعلان دول الخليج عن انتهاء "المنح غير المشروطة والودائع الخالية من القيود والعائد" وانتهاء عصر القروض الرخيصة، في ظل الصعود الهائل في معدلات الفائدة على الدولار والعملات الصعبة، وتكلفة الإقراض عالميا.
على صعيد متصل، يُظهر تقرير لمعهد واشنطن للبحوث السياسية، أصدره في مايو/أيار 2023، أن تدفق رأس المال الخليجي مرهون بسحب الاستثمارات العسكرية من الاقتصاد، مبينا أن "هذا المطلب دفع الحكومة إلى وضع قائمة تضم 32 شركة مملوكة للجيش، ولكن سرعان ما تلاشت التقييمات الأولية الإيجابية لهذه الشركات، إذ تبين أن أسهم الأقلية وحدها كانت معروضة للبيع".
تلقى الجيش 1.3 مليار دولار دعما ماليا سنويا من الولايات المتحدة، على شكل مساعدات بمعدات عسكرية
أمام الضغوط المالية، فرفعت الحكومة حصص بيع الشركات التابعة للجيش من 20% إلى نحو 49%، مع استعدادها لبيع شركتي مياه صافي والوطنية للبترول بكامل طاقتها بعد إعادة هيكلة الشركتين واستبعاد الأفرع العاملة داخل نطاق المناطق العسكرية والموجودة في أماكن استراتيجية، مع التوسع في إقامة مشروعات مشتركة مع القطاع الخاص.
وقد علق صندوق النقد الدولي موافقته على منح الحكومة الدفعة الثانية من قرض بقيمة 3 مليارات دولار إلى نهاية ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ولحين التزام الحكومة ببرنامج خصخصة الشركات العامة، ومن بينها الشركات المملوكة للجيش، وتحقيق سعر صرف مرن للعملة.
ويفيد رأي العديد من الخبراء بأن القوة العسكرية هي انعكاس لقوة الاقتصاد، في ظل التحديات الداخلية التي تواجه القطاعات الإنتاجية وارتفاع معدلات الدين الخارجي إلى لأرقام غير مسبوقة، ما يبرر الخشية من أن تؤدي إلى مزيد من تراجع القوة العسكرية المصرية. ويستشهد خبراء بما يطلقه قادة الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الوحشية في غزة من تهديدات، إذا ما شارك المصريون في دعم الفلسطينيين بإدخال مساعدات إنسانية إلى القطاع من دون إذن مسبق من إسرائيل، ورفضهم إدخال الوقود إلى المستشفيات ومحطات المياه والكهرباء.
وتفيد معطيات غير رسمية بأن قادة الاحتلال عرضوا مساعدة الحكومة المصرية في تصفية ديونها الخارجية في حال قبولها إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء، ما يعتبره محللون استهانة بقدرة النظام على مواجهة كارثة أمنية تهدد البلاد.