الحرب تشوّه سوق العمل الإسرائيلي... الآلاف يغيرون مهنهم وسط النزوح وتوقف أشغال

29 مايو 2024
جنازة منتج فني شهير قتل في الحرب بعد استدعائه للاحتياط بالجيش، 13 نوفمبر 2023 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الحرب الإسرائيلية على غزة أجبرت الآلاف من العمال والموظفين على تغيير مهنهم والنزوح، مع تحول مهندسين ومديرين للعمل في مجالات بعيدة عن تخصصاتهم مثل صناعة الحلويات.
- "جمعية 121" تشير إلى زيادة الطلب على التدريب المهني وتغيير المسار المهني بعد الحرب، مع وجود 140 ألف وظيفة مهنية مفتوحة، مؤكدة على ضرورة دعم الدولة لهذا التوجه.
- الحرب تسببت في تحديات لأصحاب الأعمال بسبب استدعاء الموظفين للخدمة العسكرية، مما دفع الكنيست لإقرار قانون يسمح بتشغيل المراهقين ليلاً وأثار مطالبات بتعويضات لأصحاب الأعمال.

قلبت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حياة مئات آلاف الموظفين والعمال الإسرائيليين رأسا على عقب، إذ اضطر الآلاف منهم إلى تغيير مهنهم، بعد توقف أعمالهم ونزوحهم من المناطق المتاخمة لقطاع غزة جنوباً والحدود اللبنانية شمالاً، بينما لا تلوح في الأفق نهاية للحرب التي تدنو من شهرها التاسع. وطاول التغيير القسري مختلف المهن والوظائف، إذ اضطر مهندسون في مجال الإلكترونيات الأوفر حظاً داخل سوق العمل في إسرائيل إلى العمل في صنع الحلويات، وقبل مديرون في وظائف مرموقة العمل في مهن هامشية بعيدة تماماً عن تخصصاتهم.

ما صنعته الحرب في سوق العمل الإسرائيلي خلال بضعة أشهر لم تصنعه عقود من الصراعات وأزمات مالية وصحية آخرها وباء كورونا قبل نحو أربع سنوات، وفق تقارير إسرائيلية أشارت إلى حدوث انقلاب في مسار حياة عشرات وربما مئات الآلاف، فهناك من فقدوا وظائفهم، ومن ذهبوا إلى الانضمام إلى جنود الاحتياط في الجيش، ومن أُغلقت أعمالهم، ومن تم إجلاؤهم من موطنهم إلى بيئة جديدة.

تؤكد "جمعية 121"، التي تعمل على تعزيز التدريب المهني الجيد والتي تحظى بدعم حكومي أن هناك تغييرا كبيرا ملموسا في المهن بعد الحرب. ويقول تالي نير، الرئيس التنفيذي للجمعية وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية: "نرى العديد من الطلبات من الأشخاص الذين يريدون إجراء تغيير مهني كبير بعد الحرب، والأسباب متنوعة، سواء كان ذلك بسبب إجلائهم أو إعادتهم من المناطق الآمنة التي جرى إيواؤهم فيها أو أن الحرب أثرت عليهم عقلياً". تشير الجمعية التي تضم حوالي 50 منظمة اجتماعية وتجارية تعمل معاً لتعزيز التدريب المهني، إلى أن "الدولة يجب أن تساعد هؤلاء الأشخاص على تغيير مسارهم". وقال نير: "توجد حالياً قرابة 140 ألف وظيفة مهنية مفتوحة".

أحد الذين اضطروا إلى تغيير مهنهم، نسيم ميمون وهو من مدينة سديروت شمال قطاع غزة، حيث ولد وعاش طوال حياته هناك وعمره 46 عاماً، وأب لخمسة أبناء ويعمل مهندس إلكترونيات وزوجته معلمة. وبعد اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي انتقل مع عائلته إلى تل أبيب واضطر إلى العمل صانع حلويات. وأضاف ميمون: "بعد ستة أشهر، عدنا إلى سديروت، وكان ذلك خطأً، لأنه ليست لدينا أي حماية". وأشار إلى أنه بات بحاجة إلى المساعدة والمشورة بعد تسبب الحرب في تغيير مساره المهني، مضيفا: "في بعض الأحيان عليك القفز في الماء، وهذه الفترة جعلتني أقفز في الماء".

ولفت إلى أن الفترة التي قضاها في الإجلاء لم تكن جيدة بالنسبة له قائلا: "في الفندق، عوملنا مثل الدرجة الثانية.. لم يعطونا ما نستحقه، لكننا لا نشكو". وأشار إلى أنه لا يشعر بالأمان بعد عودته إلى سديروت رغم الوعود الحكومية بتحقيق ذلك، مضيفا: "أريد الانتقال إلى تل أبيب أشعر بأمان أكبر هناك مما كنت عليه في سديروت".

من مدير مرموق في شركة اتصالات إلى منسق موسيقى

بالنسبة إلى ران صادوق البالغ من العمر 28 عاماً، وهو أب لطفلين من مدينة سديروت أيضا، وكان يعمل مدير مبيعات في إحدى أكبر الشركات الإسرائيلية، تلازمه الأناقة وربطة العنق طوال سنوات ماضية، لكنه بعد الحرب أصبح يعمل "منسق موسيقى" في الحفلات. قال ران: "كانت وظيفتي الأخيرة هي مدير المبيعات في شركة هوت (تعمل في مجال الاتصالات وتقدم العديد من الخدمات منها التلفزيون الكابلي)، وبعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أدركت أن الحياة ليست كما كنا نظن.. فقد انتقلنا إلى إيلات لمدة أربعة أشهر لم أفعل فيها شيئاً وكنت أبحث عن طريقة لتمضية الوقت وفي الغالب أهدرنا المال، ثم انتقلنا إلى تل أبيب لكن الأمر صعب".

وأشار إلى أن أنه اضطر إلى العمل منسق موسيقى، رغم أن ذلك بعيد تماماً عن عمله الأصلي مثل ابتعاد السماء عن الأرض، لافتا إلى أن من حوله استقبل تغيير مساره المهني بالكثير من الاستغراب. وقال: "لقد رفع الناس حواجبهم. لقد سخروا مني. لقد كنت في المبيعات في المكتب طوال حياتي، من الثامنة إلى الخامسة مع سيارة جيدة.. يقولون إنني أخطأت، لكن وسط الحرب لا مثار للدهشة"، مشيرا إلى أن حبه للموسيقى شجعه على ذلك.

بدوره، قالت أورال (28 عاماً) وهو من مستوطنة كريات شمونة في المنطقة الشمالية من فلسطين المحتلة على الحدود مع لبنان، إنه عمل خلال السنوات الثلاث الماضية مدير فريق في شركة متخصصة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وفي الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان من المفترض أن يبدأ عملاً جديداً في نفس تخصصه، لكن كل شيء توقف وغادر المكان مع والديه وشقيقيه.

وأضاف: "حتى قبل شهر، كنا في طبريا (شمال)، ثم انتقلنا إلى نتانيا (غرب)، مشيرا إلى أن والديه يحصلان على إعانات بطالة، لكن من المستحيل العيش بهذا المبلغ، لذا قرر وأخته المساعدة. وأوضح: "أختي التي كانت تعمل في كريات شمونة في مركز الاتصال التابع لشركة اتصالات، انتقلت للعمل في تصفيف الشعر، وأخذت دورات في التسويق والتدريب الشخصي، وتحولت إلى التسويق لمصلحة الشركات الخاصة، وأرغب في أن تتواصل معي الشركات وأن أعمل على الرغم من أنني لا أملك الكثير من الخبرة في هذا المجال.. لقد تم إجلاؤنا منذ سبعة أشهر ولا نرى أي أفق.. ولن نعود إلى ديارنا دون تسوية سياسية".

تغييرات ديموغرافية واجتماعية وسط استمرار الحرب

وإلى جانب التغييرات المهنية التي أحدثتها الحرب، فإنها قد تحدث تغييرات ديموغرافية أيضا ما يكون له أثر على النشاط الاقتصادي ومستويات المعيشة في إسرائيل. ومن الأشخاص الذين غيروا وظائفهم أيضا بعد الحرب، يارون بن يائير (45 عاماً)، وهو أب لأربعة أطفال، الذي جرى إجلاؤه وأسرته من كريات شمونة (شمال)، والذي وُلد ابنه الرابع في الفندق الذي تم تسكين أسرته فيه بعد الإجلاء.

وقال: "توجهنا إلى القدس ثم إلى فندق في تل أبيب، وتنقلنا بين عدة شقق، والآن نحن في شقة مستأجرة في تل أبيب.. كنت أعمل فني تكييف، لكن الآن اشتريت دراجة كهربائية وأقوم بإعداد الوجبات في المنزل لأبيعها عن طريق التوصيل.. أريد أن أكسب لقمة عيشي هنا وأبقى في تل أبيب".

وحتى في المناطق التي تبدو آمنة من ضربات المقاومة الفلسطينية جنوباً وحزب الله اللبناني شمالاً، تسبب الارتباك الذي يسيطر على سوق العمل وحدوث شواغر في الكثير من الوظائف بسبب استدعاء أكثر من 300 ألف شخص للانضمام إلى الجيش، في مصادقة الكنيست (البرلمان) في وقت سابق من مايو/أيار الجاري على قانون يقضي بتشغيل المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و18 عاماً مساءً خلال فترات التوقف عن المدرسة. ويأتي ذلك بسبب قلة العمال بسبب الحرب وبهدف تعزيز الاقتصاد.

ووفق القانون، سيتم تمديد ساعات عمل المراهقين حتى الساعة الواحدة صباحاً خلال فترات الإجازة المدرسية. وقال وزير العمل يوآف بن تسور، الذي قدم المقترح، وفق تقرير منفصل لـ"يديعوت أحرونوت" إن "التعديل سيساعد أصحاب العمل على جلب عمالة إضافية وفي الوقت نفسه يمنع التقاعس بين الشباب".

ورغم هذه التدابير، فإن استمرار الحرب يعمق من التشويه الذي طاول سوق العمل ويخلق اضطرابات اجتماعية أكبر. وكشف تحقيق أجرته صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية الإسرائيلية أخيراً عن "تذمر حاد" يسود أوساط جنود الاحتياط جراء طول مدة الخدمة. وحذر هؤلاء الجنود من أن هذا الأمر يمثل استنزافا لهم، لافتين إلى أنه تسبب في مشكلات نفسية وزوجية وأخرى طاولت حياتهم العملية.

وأشارت الصحيفة إلى أن طول مدة الخدمة في الجيش كانت له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، إذ قدرت وزارة المالية تكلفة أيام الاحتياط في الحرب بنحو 5.44 مليارات دولار، لكن التكلفة ارتفعت بعد سبعة أشهر إلى 8.17 مليارات دولار، ولا تزال الحرب مستمرة.

أصحاب العمل يدفعون فاتورة استدعاء الموظفين إلى الحرب

ولا تقتصر أضرار الحرب التي لا تلوح في الأفق نهاية لها على الموظفين والعاملين في مختلف الأنشطة والمهن، وإنما أيضا أصحاب الأعمال الذين باتوا يتحملون فواتير لتعويض من جرى استدعاؤهم إلى الجيش جنود احتياط.

وكشفت صحيفة "معاريف" أنه جرى في الأيام الأخيرة تقديم التماس إلى المحكمة العليا نيابة عن رئاسة أصحاب العمل والشركات في إسرائيل يطلب من المحكمة أن تأمر وزيري المالية والعمل بتعديل أنظمة التأمين الوطني التي تم وضعها أخيراً بحيث تضمن التعويض الكامل لأصحاب العمل لجميع المدفوعات التي سيتم دفعها فعلياً لموظفيهم الذين جرى ضمهم إلى الاحتياط، بما في ذلك المدفوعات الاجتماعية (الاشتراكات في صندوق معاشات التقاعد، ومخصصات تعويضات نهاية الخدمة، وأقساط التأمين الاجتماعي وصندوق التدريب).

وتنص أنظمة التأمين التي تم وضعها أخيراً على أن مؤسسة التأمين الوطني ستعوض أصحاب العمل عن الدفعات التي دفعوها لصندوق التعويضات أو صندوق التقاعد وعن دفع أقساط التأمين التي دفعوها نيابة عن موظفيهم الذين خدموا في الاحتياط، بمعدل 20% من الدخل اليومي للموظف، وذلك للفترة ما بين العاشر من يوليو/تموز 2023 و31 ديسمبر/كانون الأول 2024. على الرغم من أنه من الناحية العملية، يرتفع معدل المدفوعات للموظفين إلى حوالي 30% من الراتب، وفق الصحيفة.

ويشير أصحاب الأعمال إلى أن المدفوعات التي يتحملونها بمثابة "ضريبة على الأجور" يتم فرضها بشكل عشوائي وتعسفي وغير متكافئ، بينما موظفوهم يخدمون في الاحتياط، ما يجعلهم يتحملون بشكل مباشر جزءاً من ميزانية الحرب.

المساهمون