الحرب الروسية تعمق أزمة التوريد... تجارة عالمية جديدة

08 مارس 2022
مصنع سيارات فولكسفاغن في فولفسبورغ بألمانيا (فرانس برس)
+ الخط -

لم تعد تداعيات الاجتياح الروسي لأوكرانيا تقتصر على أسعار الطاقة العالمية وإمدادات القمح وبعض المعادن الأساسية، وإنما بدأت تتشكل معالم تجارة عالمية جديدة على ضوء أزمة سلاسل التوريد ودخول الكثير من الشركات الدولية الكبرى في الصراع.

أجبرت الحرب الروسية على أوكرانيا شركات عالمية عاملة في مجالات تبدأ من المشروبات وتمتد إلى السيارات ومحركات الطائرات على تعليق إنتاجها، ليس في روسيا وأوكرانيا فحسب، وإنما في دول أوروبية عدة، منها ألمانيا، صاحبة القوة الاقتصادية الكبرى في منطقة اليورو.

ويبدو أن الشركات الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية قد تعيد رسم خريطة أنشطتها، ليس فقط في روسيا خلال الفترة المقبلة وإنما في الصين أيضا التي ينظر إليها على أنها تمثل خطراً داهماً أيضاً على خطوط التوريد العالمية.

هشاشة سلاسل التوريد

وخفت ضجيج خطوط تجميع السيارات في ألمانيا وبريطانيا والنمسا، في مؤشر إلى مدى هشاشة سلاسل التوريد، بسبب تسارع خطوات غزو روسيا لأوكرانيا.

وتُعد شركات صناعة السيارات، من خلال انتشارها العالمي وسلاسل التوريد المعقدة وملايين الموظفين العاملين فيها، مثالاً رئيسياً على كيف يمكن للحرب في أوكرانيا أن تعيد تشكيل التجارة الدولية، وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية، نشر أمس الاثنين، أشار إلى أن هذه الحرب بجانب وباء كورونا والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين كشفت أوجه الضعف الحادة لسلاسل التوريد العالمية.

وسيضيف الصراع الروسي الأوكراني ضغوطا إضافية على الشركات، ما يعيدها إلى التصنيع "بالقرب من المنزل" وتقليل مخاطر الاضطرابات في مكان بعيد يؤدي إلى فوضى في عملياتها.

وقد أوقف عملاق صناعة السيارات الألماني فولكسفاغن الإنتاج في منشآته في روسيا، كما علق تصدير جميع المركبات إلى روسيا إلى أجل غير مسمى، كما أقدمت شركات السيارات الألمانية على الخطوة ذاتها، بعد أيام من إرسال الرئيس فلاديمير بوتين دباباته إلى أوكرانيا.

ولم يكن للشركات الألمانية الكثير لتخسره في سوق يتجه نحو ركود عميق من شأنه أن يقضي بالتأكيد على مبيعات السيارات الجديدة في البلاد لأشهر أو سنوات، وفق نيويورك تايمز.

نقص الرقائق الإلكترونية

لكن المشكلة الكبرى التي تواجهها شركات صناعة السيارات الأوروبية بشكل عام ليست في مبيعات سياراتها في روسيا، وإنما بكيفية إعادة الإنتاج إلى طبيعته في مصانعها، بعدما قطع الغزو الروسي إمدادات العديد من قطع غيار السيارات المصنوعة في غرب أوكرانيا، حيث تعرضت سلاسل التوريد بالفعل لضغوط شديدة بسبب النقص في أشباه الموصلات وأجزاء أخرى.

وأصبحت أوكرانيا مكاناً شائعاً لتصنيع الأنظمة التي تربط المكونات الإلكترونية، مثل المصابيح الخلفية أو أنظمة الترفيه داخل السيارات، ويتم التجميع يدوياً إلى حد كبير، وهو ما يتطلب عدداً كبيراً من العمال المهرة. كانت أوكرانيا جذابة لأن العمالة رخيصة نسبياً فيها والقوى العاملة متعلمة.

قال بيتر ويلز، مدير مركز أبحاث صناعة السيارات في جامعة كارديف في ويلز، إن "أوكرانيا كانت تعتبر موقعاً استثمارياً مستقراً نسبياً"، وهي ديمقراطية صحية مفتوحة أمام الاستثمار الأجنبي. وعندما أوقف القتال الإنتاج لدى الموردين الأوكرانيين، كان التأثير شبه فوري في المصانع داخل البلدان الأوروبية، إذ لا يمكن لأي سيارة أن تعمل بدون أنظمة الأسلاك.

وفي غضون أيام من بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا، أغلقت شركة "بي إم دبليو" عدة مصانع في ألمانيا والنمسا وبريطانيا بسبب نقص في قطع الغيار. كما علقت فولكسفاغن الإنتاج في مواقع متعددة، بما في ذلك مصنعها الرئيسي في ألمانيا، في فولفسبورغ، ومصنع في تسفيكاو (وسط ألمانيا)، ينتج السيارات الكهربائية، بما في ذلك ID.4 SUVs، والتي يتم تصديرها إلى الولايات المتحدة.

وقامت شركة بورش، وهي وحدة تابعة لشركة فولكسفاغن، بتعطيل مصنع في لايبزيغ يصنع سيارات كايين الرياضية متعددة الاستخدامات.

وقالت مرسيدس بنز إنها عدلت نوبات العمل في بعض المواقع لكن جميع مصانعها كانت تعمل. وحذرت الرابطة الألمانية لصناعة السيارات من أن الحرب والعقوبات قد تعوق قريباً إمدادات المواد الخام من روسيا التي تحتاجها شركات صناعة السيارات. وتشمل هذه المواد البلاديوم، المستخدم في معدات مكافحة التلوث في السيارات، والنيكل الضروري لبطاريات السيارات الكهربائية.

موجة تضخم عاتية

وتأتي الحرب لتعمق ندوب سلاسل التوريد العالمية، التي لم تتعاف بعد من التأثيرات السلبية لجائحة كورونا التي تفاقمت خلال العامين الماضيين، الأمر الذي يزيد من تكاليف الإنتاج ويرفع أسعار المنتجات النهائية للمشترين بينما يواجه العالم موجة تضخم عاتية بفعل قفزات أسعار الطاقة أيضاً.

فمن القمح إلى الذرة، مروراً بالصلب والنيون، يتوقع محللون أن تتعطل سلاسل التوريد العالمية وسط جنوح الحرب إلى الأسوأ على ما يبدو، فروسيا وأوكرانيا تعدان من كبار الموردين للمعادن والسلع الرئيسية إلى العالم.

وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، قبل يومين، أن سلاسل التوريد إلى أوروبا ليست المتضرر الوحيد، بل طاولت الأضرار أيضاً بعض الدول الآسيوية، وعلى سبيل المثال اليابان، التي تضررت إمدادات صناعة الصلب إليها بسبب الحرب، إلى جانب العديد من الدول في الشرق الأوسط وأفريقيا.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

وتشهد حركة الشحن البحري من منطقة البحر الأسود في الوقت الحالي ارتباكاً شديداً بسبب الحرب، والذي أدى إلى وقف عدد من الخطوط الملاحية من أوكرانيا وإليها، وهي تمثل ممراً مهماً لشحنات الحبوب والمعادن والنفط الروسي إلى باقي أنحاء العالم.

وتعتزم العديد من الشركات اللوجيستية خلال الفترة المقبلة البدء في البحث عن أسواق بديلة لتعويض توقف الخطوط الملاحية مع الدولتين، وتتمثل تلك البدائل في عدة دول، منها رومانيا، وفرنسا، والبرازيل، والأرجنتين.

كما أصبح من الصعب نقل بعض السلع، مثل المعادن، التي يتم شحنها في حاويات، ولن تنطلق ما يقرب من نصف سفن الحاويات في العالم من روسيا وإليها، وذلك بناءً على إعلانات شركات الشحن، اعتباراً من الثلاثاء الماضي، بحسب وكالة بلومبيرغ الأميركية.

خسائر بقيمة تريليون دولار

كما تداخل القتال مع الشحن الجوي، ومع حركة السكك الحديدية على خط السكك الحديدية العابر لسيبيريا، الذي تستخدمه شركات صناعة السيارات الألمانية لتزويد المصانع في الصين.

وفي الأثناء، قال المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، مطلع مارس/ آذار الجاري، إن الصراع في أوكرانيا ربما يكبد الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار، ويساهم في زيادة التضخم العالمي بنسبة 3% خلال السنة الحالية، من خلال إطلاق أزمة أخرى في سلاسل التوريد.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز، أمس، عن لورا رابينوفيتز، المحامية التجارية في شركة المحاماة "غرينبيرغ تراوريغ"، قولها إن "سلاسل التوريد العالمية تتضرر بالفعل"، مضيفة أن التأثيرات ستختلف بالنسبة لصناعات معينة وتعتمد على طول مدة الغزو.

كما أن من المتوقع أن تؤدي العقوبات الغربية المتزايدة على موسكو، وبخاصة حظر بعض البنوك الروسية من نظام الدفع العالمي "سويفت"، إلى زيادة مصاعب الشركات في إجراء أي نوع من التجارة مع روسيا، حتى في القطاعات التي لا تخضع للعقوبات، بحسب "وول ستريت جورنال".

وبينما خطفت الحرب الروسية الأوكرانية أنظار الشركات القلقة من اتساع تداعيات أزمة سلاسل التوريد، هناك من يبدي مخاوف أكبر حيال تشكل نظام عالمي تجاري جديد، خاصة أن جذوة الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، أكبر اقتصادين في العالم، لا تزال مشتعلة، كما أن الصين ترتبط بعلاقات وطيدة مع روسيا.

دعم صيني لروسيا

وقال غونترام وولف، مدير "Bruegel"، وهي منظمة بحثية في بروكسل، إن الكثير من الأمور يعتمد على ما تفعله الصين، بحسب صحيفة نيويورك تايمز.

وأضاف: "لا أعرف إلى أي مدى تريد الصين أن تحذو حذو بوتين في مواجهة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة وأوروبا؟"، وتابع أن "الصين متشابكة للغاية اقتصاديا مع الغرب.. لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن تذهب الصين حقاً في تقديم دعم عشوائي لروسيا".

المساهمون