تدخل الحرب الروسية في أوكرانيا التقارب القائم بين بكين وموسكو في منعطف خطر وفق مراقبين، إذ إن بكين لديها مصالح مالية واقتصادية معقدة ومتضاربة تتقاطع مع روسيا، كما تتقاطع كذلك مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالتالي تنظر بكين إلى حساب المكاسب والخسائر من دعم حليفها الاستراتيجي، روسيا، الذي تدخره لاحتمال حدوث مواجهة مستقبلية مع واشنطن وحلفائها في أوروبا وآسيا.
وحتى الآن تقف الصين على الحياد من الحرب الأوكرانية، إذ إنها لم تدن صراحة الغزو الروسي لأوكرانيا ولم تدعمه، لكنّها لم تشارك في حملة المقاطعة الاقتصادية والمالية الغربية الجارية حالياً لعزل روسيا عن النظام المالي والاقتصادي العالمي.
وبحسب محللين، فإنّ الصين لا تزال تراقب وتوازن بين مصالحها التجارية والاقتصادية من هذه الحرب.
الصين قد وفرت لروسيا عبر نظام "الصفقات التبادلية" نحو 77 مليار دولار، وهو ما ساعدها في الصمود أمام الحظر الغربي
ولدى الصين مصالح اقتصادية تكاملية مع روسيا، إذ رغم أنّها قوة صناعية وتجارية ضاربة في العالم ويفوق حجم اقتصادها 14 تريليون دولار وتجاوزت تجارتها 3.3 تريليونات دولار في العام الماضي 2021، فإنّها دولة فقيرة من ناحية الطاقة، وتحتاج إلى روسيا لاستيراد النفط والغاز الطبيعي، ولدى شركاتها اتفاقات طاقة تقدر بنحو نصف مليار دولار مع الشركات الروسية.
في هذا الصدد، يقول نائب رئيس مركز كارنيغي للسلام العالمي، إيفان فيغنبوم، في تعليقات لشبكة الراديو الأميركية "أن بي آر" إنّ "الصين تسعى لجمع مصالح متناقضة وصولاً إلى موقف يخدمها في هذه الحرب، وهذا ربما لن يكون ممكناً في ظل هذه الظروف المتوترة".
من جانبه، يرى وانغ هيو يو، مدير مركز "الصين والعولمة للأبحاث" أنّ "ما يدفع الصين نحو روسيا هو مخاوفها من الولايات المتحدة، إذ إنّ مصالحها الاقتصادية مع التحالف الغربي أكبر من مصالحها مع روسيا".
يضيف الخبير يو أنّ لدى الصين مخاوف أمنية واقتصادية مع أوروبا وتتخوف من تداعيات الحرب على الاستقرار السياسي في دول الكتلة الأوروبية.
كما يرى محللون أنّ الحرب الروسية على أوكرانيا ستكون لها عدة تداعيات على مستقبل الصين كـ"قوة عظمى" في "النظام العالمي" الجديد المتوقع أن يتبلور في أعقاب طيّ صفحة الحرب، وبالتالي تبدو بكين قلقة.
ويمكن النظر إلى ثلاثة محاور استراتيجية في الموقف الصيني لناحية المكاسب والخسائر في دعم روسيا أو إدانتها في هذه الحرب.
على صعيد مصالح الصين التجارية والاقتصادية، يرى كلّ من الخبير إيان جونسون والخبيرة كاثي هوانغ في تحليل بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي للدراسات الاستراتيجية، أنّ "من غير المحتمل أن تقدم الصين دعماً مالياً مباشراً لروسيا في هذه الحرب الدائرة، ولكن ربما تقوم الشركات الصينية بشراء مزيد من صفقات النفط والغاز في حال تواصل الحظر الغربي المشدد".
ومن شأن هذه الخطوة أن تمنح الشركات الصينية مكاسب الحصول على صفقات رخيصة تلبيها روسيا في المستقبل بسبب حاجتها الماسة للدعم المالي في وجه العزلة الدولية.
من هذا المنطلق، يرى الخبير الصيني زونغ يان زو ليو، أنّ الحظر الاقتصادي والمالي الغربي المشدد ربما سيدفع روسيا للتقارب أكثر مع الصين".
ويقول الخبير زونغ يان زو ليو في تحليله بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي إن الصين ستدعم روسيا عبر توفير الأدوات المالية البديلة وتستفيد من عزلتها في تدويل اليوان كما فعلت حينما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014.
وكانت الصين قد وفرت لروسيا عبر نظام "الصفقات التبادلية" نحو 77 مليار دولار، وهو ما ساعدها في الصمود أمام الحظر الغربي.
ويشير الخبير ليو إلى أنّ الصين ستستغل عزلة روسيا لتعميق ربط نظامها المالي بالنظام المالي الصيني، وذلك عبر تعميق التعاون في نظم الهيكلة المالية المبنية على العملة الصينية " اليوان".
وتجري هذه الهيكلة المالية حالياً عبر نظام الدفع بين البنوك "سيبس"، وهو نظام شبيه بنظام الحوالات المالية الغربي "سويفت". كما ربما ستعمق العزلة الروسية عن النظام المالي الغربي ربط النظام المالي الروسي كذلك بالصين عبر شبكة البطاقات المصرفية الصينية، "يونيون باي بانك نيتويرك".
وتعمل بكين على الاستفادة من هذه الحرب والحصار المالي على موسكو في تدويل اليوان وتقليص حصة الدولار في التجارة العالمية. ويرى محللون أن هذه الحرب ربما تنتهي بتقسيم العالم وبشكل واضح إلى معسكرين، مع أو ضد الولايات المتحدة.
وبالتالي ستستفيد الصين من توسيع حصة اليوان في الدول التي ربما تتعرض مستقبلاً للحظر الأميركي بسبب عدم دعمها للحظر الغربي ضد روسيا.
على الصعيد التجاري، رغم أنّ التبادل التجاري الصيني مع روسيا ليس كبيراً، إذ لم يتجاوز 140 مليار دولار في العام 2021، إلا أنه من ناحية مكوناته يكتسي أهمية بالغة للنمو الاقتصادي والدفاعي الصيني، إذ إنه يشتمل على واردات النفط والغاز الطبيعي. كما تستفيد الصين من التقنية العسكرية الروسية في تطوير صناعاتها الدفاعية.
من ناحية المنظور الاستراتيجي فإن الصين تنظر لروسيا كحليف استراتيجي مهم ودائم ضد واشنطن، وتعتقد أن المواجهة ربما ستأتي يوماً ما مع الولايات المتحدة وأنها مؤجلة فقط حتى الآن، وبالتالي ستحتاج إلى حليف قوي مثل روسيا.
ومن هذا المنطلق ترفض بكين إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا على الرغم من أنه يخالف مبادئها الستة في السياسة الخارجية التي أعلن عنها نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الصيني شوين لاي في الستينيات بعدم التدخل في سيادة الدول أو احتلالها ولا تزال تعتمدها الصين في سياستها الخارجية.
كما تتخوف الصين من أنها إذا دانت احتلال روسيا لأوكرانيا، أن تصبح سابقة تعتمد عليها واشنطن في منعها من ضم تايوان.
على صعيد الصادرات، تعتمد الصين في نموها الاقتصادي على الدول الغربية أكثر من اعتمادها على روسيا، إذ بلغت صادرات الصين في العام 2021 نحو 3.3 تريليونات دولار من بينها صادرات قيمتها أكثر من تريليون دولار مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالتالي فإنّ بكين حريصة على أن لا تذهب في دعمها لغزو الرئيس بوتين لأوكرانيا إلى الحد الذي يغضب التحالف الغربي ويضر بمصالحها التجارية مع الدول الغربية. كما أنّ الصين حريصة على الاستقرار السياسي في أوروبا لأنها تمثل السوق الرئيسي الثاني لها بعد الولايات المتحدة.
وربما تكون الصين حريصة على أن تنتهي الحرب بروسيا ضعيفة لا تملي عليها شروطها ولا تهدد تجارة الصين ومركزها الجيوسياسي في العالم.
على صعيد تقاطع المصالح في آسيا الوسطى لدى الصين مصالح واسعة في دول آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن الرئيسية في الصناعة التي تحتاجها الصين، كما أن مشاريع مبادرة "الحزام والطريق" معظمها يمر عبر هذه الدول، وهي دول متخلفة تنظر لها الصين كسوق استراتيجي لصناعاتها في المستقبل وممر لتمددها التجاري العالمي.
لكن في ذات الوقت فإن هذه الدول تخضع لنفوذ موسكو السياسي والدفاعي. وبالتالي هنالك مصالح تجارية واقتصادية تتقاطع وتنافس غير معلن بين موسكو وبكين في آسيا الوسطى.
فمن جهة هذه المصالح، فإن بكين ربما ترغب في أن تخرج موسكو من الحرب الدائرة ضعيفة بدرجة تسمح لها بالهيمنة على ثروات آسيا الوسطى واستغلالها دون عناء الدخول في احتكاك مع موسكو.
وعلى الرغم من التقارب القوي بين روسيا والصين، فإن لدى الصين مصالح تجارية مع أوكرانيا، إذ إن أوكرانيا عضو في مبادرة " الحزام والطريق" الصينية، كما أنها ممر تجاري مهم للبضائع الصينية إلى دول الاتحاد الأوروبي، إذ إنّ أوكرانيا لديها اتفاقية تجارة حرة مع الكتلة الأوروبية تستغلها الشركات الصينية في تمرير تجارتها إلى أوروبا.
ولدى الشركات الصينية عقود إنشائية كبرى في أوكرانيا تفوق قيمتها 3 مليارات دولار من بينها عقد قيمته مليار دولار وقعته شركة "تشاينا باور" مع الحكومة الأوكرانية لتوليد الطاقة عبر الرياح.
يضاف إلى ذلك أنّ أوكرانيا أكبر مصدر للشعير للصين وكذلك تقنيات الطيران.
لكنّ الخبير الصيني زو ليو، يرى أنّ الصين ستضحي بهذه المصالح وتجبر شركاتها على امتصاص الخسائر في سبيل الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع روسيا.