شعور ممزوج بالحسرة والتعجب لا يستطيع الإنسان أن يقاومه، وهو يشاهد طوابير زيت الطعام الطويلة في الجزائر، وبعيداً عن السجالات حول كون الأزمة مفتعلة، أو تعبّر عن واقع حقيقي من شحّ لبعض المواد الاستراتيجية، فقد بات من المؤكد أن الجزائر العريق يعاني أزمة اقتصادية، هي نتاج طبيعي للسياسات الاقتصادية السائدة عبر أكثر من نصف قرن من الزمان، التي فشلت في تحويل البلد الغني بشعبه وموارده الطبيعية إلى بلد يكتفي ذاتياً حتى في أبسط السلع الاستراتيجية.
ورغم الطقس البارد والممطر والصيام في معظم الولايات، إلا أن التحركات الشعبية الأسبوعية استمرت متجاوزة الجمعة رقم 113 في مطالباتها السلمية بالتغيير الجذري وبرحيل النظام السياسي، الذي أوصل البلاد إلى هذه الأزمة، مع التشديد على رفض الانتخابات البرلمانية المبكرة، والدعوة إلى التحول نحو الدولة المدنية وإنهاء الحكم العسكري.
الطاقة المصدر الوحيد للعملة الصعبة
لم تستطع الجزائر خلال الخمسين عاماً الأخيرة التخلص من اعتماديتها على قطاع النفط والغاز الذي يشكل 95% من مصادر النقد الأجنبي للبلاد، علاوة على 60% من مجمل الإيرادات العامة، على الرغم من العديد من الفرص المهدرة للانعتاق والاعتماد على الاستثمار في عائدات المحروقات كبديل بسيط للسياسات الاستهلاكية القائمة.
ووفقاً لمنتدى الدول المصدرة للغاز، فقد انخفض إنتاج الجزائر من الغاز في عام 2019 إلى أدنى مستوى له منذ عشر سنوات، تزامناً مع تزايد الاستهلاك المحلي المتناسب مع زيادة أعداد السكان، ما يضغط بشدة على الكميات المتاحة للتصدير، ولا سيما في ظل تآكل الإنتاج، وعدم قدرة الآلة الإنتاجية للبلاد على بلوغ السقف المحدد لها من منظمة أوبك، مقارنة ببقية دول المنظمة، التي قفزت على الكميات الإنتاجية المتفق عليها.
وكشف تقرير لـوكالة "بلومبيرغ" نُشر في مطلع فبراير الماضي أن صادرات الجزائر من النفط الخام والغاز الطبيعي المسال انخفضت بنحو 30 في المئة في عام 2020، وفي تصريح مثير للجدل، قال الوزير محمد شريف بلميهوب، نهاية يناير الماضي، إن "الجزائر ستكون عاجزة عن تصدير برميل واحد من البترول بحلول عام 2025"، وأكد أن "الجزائر بلد غير بترولي، عكس ما رُوِّج له في فترات سابقة".
وكان وزير الطاقة عبد المجيد عطار، قد نفى ما تداولته وسائل إعلام عالمية عن تراجع إنتاج المحروقات الجزائري، مؤكداً أن صادرات النفط خلال سنة 2020 تجاوزت 937 ألف برميل يومياً، وأن صادرات الغاز الطبيعي بلغت 40 مليار متر مكعب، وأن عوائد هذه الصادرات بلغت 20.2 مليار دولار، مكونة من 13.2 مليار دولار مداخيل تصدير النفط و 7 مليارات دولار من مداخيل تصدير الغاز.
كورونا يعمّق الأزمة الاقتصادية
إلى جانب انخفاض كميات الإنتاج والتصدير النفطي في العام الماضي، عانى الاقتصاد الجزائري من تداعيات انتشار فيروس كورونا، وهو ما اضطر الحكومة إلى تقليص الإنفاق الحكومي بواقع 50 بالمئة، وتجميد العديد من المشاريع الحكومية، كذلك أقرت الحكومة في يونيو/ حزيران الماضي قانون موازنة تكميلياً بإجراءات تقشفية موجعة، بالإضافة إلى تطبيق زيادات على أسعار البنزين بـ 3 دنانير (2.3 سنت) للتر الواحد، والديزل بواقع 5 دنانير (3.9 سنتات) للتر الواحد.
واضطرت الحكومة أيضاً إلى تقديم مشروع الموازنة للعام الحالي بعجز قياسي بلغ 2700 مليار دينار (22 مليار دولار)، مقارنة بعجز يراوح بين 13 إلى 17 مليار دولار منذ أزمة انهيار أسعار النفط عام 2014، وفتح العجز الكبير للموازنة الجديدة باب التساؤلات واسعاً عن المصادر المتاحة التي يمكن أن تتحرك من خلالها الدولة لتغطية هذا العجز، ولا سيما في ظل الجدل الدائر حول استمرار الحكومة في طبع النقود دون إعلام المواطنين.
مع الإشارة هنا إلى أن الترخيص القانوني للحكومة بطبع النقود لا يزال قائماً حتى الآن، في ظل التعديل التشريعي الصادر عام 2017 والمستمر لمدة خمس سنوات تنتهي بنهاية عام 2022، والذي أجاز للحكومة اللجوء إلى تمويل عجز الموازنة العامة من خلال طبع النقود، وبدون وضع سقف للكمية المطبوعة.
خيارات محدودة لمواجهة عجز الموازنة
تبدو البدائل التي يمكن الدولة الجزائرية ارتيادها خلال الأزمة الحالية محدودة للغاية، في ظل الريعية المفرطة والمزمنة التي يعانيها الاقتصاد. فسياسة التسهيلات الكمية الهادفة إلى زيادة المعروض النقدي كطريقة لتحفيز النشاط الاقتصادي والنمو، ستعتمد على طبع النقود، وتناهضها بشدة القوى السياسية المختلفة، في ظل التخوفات من تأجيج معدلات التضخم في البلاد التي تزايدت من 2% عام 2019 لتصبح 4.2% في العام الماضي، ومن المرجح أن ترتفع كذلك في العام الحالي، ولا سيما بعد استمرار ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية، والمشاكل التي تعتري الشحن والتوريد في أعقاب أزمة كورونا وفي ظل الاعتماد المفرط على استيراد السلع والخدمات من الخارج.
وتبدو سياسة الاقتراض الخارجي مرشحة بقوة لمواجهة عجز الموازنة العامة، لكن التجربة المريرة التي عاشتها الجزائر مع صندوق النقد والبنك الدوليين في فترات سابقة، علاوة على الاشتراطات التقشفية لهذه المؤسسات وأثرها شديد السلبية على المواطن، ستجعل خيار اللجوء إليها مستبعداً إلى حد كبير، ولا سيما في ظل حالة الحراك السلمي الرائع والمستمر لأكثر من عامين ماضيين.
ويبقى أمام الحكومة الاقتراض الخارجي من المؤسسات الإقليمية التي تشترك فيها الجزائر، لكن إمكانية الاعتماد على تلك المؤسسات تبدو محدودة إلى حد كبير، حيث تضع سقفاً للاقتراض مقدراً بنسب مشاركة الدولة بها، كذلك إن الاقتراض منها لا يعطي ذات الانطباع الاقتصادي الدولي مقارنة بصندوق النقد، الذي باتت موافقته على القرض تمثل وثيقة داعمة للاقتصاد الوطني أمام الجهات الدولية، علاوة علآ مساندته لرفع التصنيف الائتماني للدولة.
أما جمع المتأخرات الضريبية طوال السنوات الماضية، والمقدرة بنحو 6000 مليار دينار جزائري (ما يعادل 45 مليار دولار بأسعار اليوم)، فمعظمها - طبقاً للخبراء - غير قابل للتحصيل، كذلك إن تحصيلها أصبح أصعب بعد التداعيات السلبية لانتشار فيروس كورونا والتراجع الضخم للإنفاق الحكومي، وإن كان هذا لا يمنع من المحاولة، ليس فقط بغية السعي نحو سداد، ولو جزءاً من عجز الموازنة، ولكن أيضاً لتوصيل رسالة للمتظاهرين عن وجود نيات العدالة الضريبية والجدية في التعامل المالي، ولا سيما مع كبار رجال الدولة.
ماذا تحتاج الجزائر؟
تتخطى أزمة الاقتصاد الجزائري حدود انخفاض أسعار النفط وتداعيات فيروس كورونا، ولذلك فالاقتراحات قصيرة الأجل يجب أن تتوجه إلى تقليص تلك الأعباء الاجتماعية للأزمة، ولا سيما على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وكذلك تخفيف الأعباء عن الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل ما يزيد على 90% من النسيج الاقتصادي للبلاد، خاصة في ظل اجتماع الكساد والتضخم ربما للمرة الأولي في الاقتصاد.
ستتخطى الجزائر أزمتها في الأجل القصير بارتيادها أيٍّ من الطرق السابقة، ولكن سيظل الاقتصاد يعاني مشاكله البنيوية المرتبطة بسوء إدارة الريوع المتراكمة في العقد الأوّل من القرن، ومن بيئة الأعمال غير المواتية التي يطغى عليها الجيش وتكبت حرية القطاع الخاص، ما يؤدي في النهاية إلى انعدام التنويع الاقتصادي الذي إن وجد سيقضي تباعاً على الأعراض المرضية الهيكلية من بطالة وتفاوت حاد في توزيع الدخل.
يحتاج الاقتصاد الجزائري المزيد من الاعتماد على القطاع السياحي الذي يبدو واعداً إلى حد كبير، في ظل الإمكانات السياحية الجزائرية الكبيرة، كما يحتاج إلى التوطين الصناعي والتكنولوجي، وهي القطاعات التي تحتاج إلى شحن الاستثمار المحلي والأجنبي، وتحتاج بيئة اقتصادية وتشريعية خالية من أمراض الحكم الشمولي.
يدرك الحراك الجزائري البطولي أن مشاكل الاقتصاد ذات صبغة سياسية في الأساس، وأن التغيير السياسي هو المقدمة الواجبة لحل المشاكل الاقتصادية المزمنة، وأن التنويع الاقتصادي المرتكز على الصناعة والزراعة والسياحة لن يتحقق في ظل بيئة سياسية هي امتداد لأنظمة هي من أوصل الشعب إلى الحالة الراهنة. ولأن الدروس المستفادة من دول الثورات العربية أصبحت راسخة، فمن المرجح استمرار هذا الحراك حتى يجتث الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية.